2016: انهيار الإعلام الأميركي "المحلي" لصالح المكاتب الكبرى

وليد بركسية

الجمعة 2016/12/23
إن كان الإعلام الحديث يمهد لصناعة الواقع ولا ينقله فقط، فمن السهل القول أن الإعلام الأميركي فشل بشكل مخيف خلال العام 2016، ليس فقط في إيصال المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض، رغم تأييد معظم الإعلام لها، بل أيضاً في تأدية دوره الكلاسيكي عبر طبيعة تغطيته المتحيزة للانتخابات الرئاسية في الولايات "غير المتحدة" وتعزيزه للانقسام هناك.


والحال أن الانتخابات لم تكن سوى حبة الكرز الحمراء المتوهجة فوق كعكة من المشاكل المتراكمة بالنسبة للإعلام الأميركي، كمنظومة حامية للديموقراطية كما يفترض في الحضارة الغربية. وتعود هذه المشاكل إلى حقبة ما قبل ترامب، وتبلورت بشكل كبير خلال ولايتي الرئيس الأميركي باراك أوباما في البيت الأبيض، حينما تخلت وسائل الإعلام الرئيسية (Mainstream Media) عن طبيعتها الناقمة لصالح طبيعة مدجنة مجاملة، حيث تشاركت مع إدارة أوباما السرديات الكبرى نفسها، والمُثل والقيم، من الناحية الفكرية الفلسفية، لينعكس ذلك على الأداء العملي الذي لم يستطع تقديم النقد والمساءلة والتصدي لبعض أفكار أوباما التي لم تعجب الكثير من المواطنين الأميركيين، مثل مشروع الرعاية الصحية أو بعض الخطط الاقتصادية.

ومع ترشح ترامب للرئاسة ثم فوزه بالانتخابات، اعتمدت وسائل الإعلام لغة هستيرية في عدائها الشخصي لترامب، لكونها أصلاً فاقدة لدورها الوظيفي في المجتمع منذ ثماني سنوات على الأقل. كان الوضع مجرد انقلاب في الأدوار على الطاولة، ما استوجب من الإعلام اللجوء للغضب المصطنع المبالغ فيه، ليغطي أزماته نفسها التي تبدأ بكونه غير حيادي وغير مهني، ولا يقف على قدم المساواة في إيصال المعلومات للناس. بلغ الأمر درجة لا يمكن القبول بها من الفوقية عندما وصفت وسائل إعلام مرموقة مثل "واشنطن بوست" مثلاً، المصوتين لترامب بأنهم مجموعة من الرعاع، مراراً وتكراراً.

الهستيرية كانت في أوج ذروتها يوم الانتخابات، صدمت وسائل الإعلام لأنها فشلت. الصحافي كاسرون فوغان كتب في تدوينة له أنه فقد كل ما كان يؤمن به طوال حياته من أهمية للإعلام في خلق واقع أفضل، ومنع الغرور وسائل الإعلام من البحث عن السبب الحقيقي وراء فوز ترامب، ولم تطرح الأسئلة الصحيحة مثل: لماذا فاز ترامب بأصوات خريجي الجامعات البيض؟ أو لماذا تفوق على ميت رومني، منافسه الجمهوري السابق، بين السود واللاتينيين؟ ولماذا صوتت له مقاطعات ديموقراطية تاريخياً مثل راست بيل (Rust Bell). والأسوأ أن الإعلام لم يسأل أحداً من مناصري ترامب بشكل جدي عن خياره الانتخابي الحر، وعندما حصل ذلك تم التركيز على الحالات الأكثر تطرفاً وعنصرية، والتي لا تعبر عن اليأس الاقتصادي لدى ملايين الأميركيين، المتراكم خلال سنوات أوباما ولم يلتفت له الإعلام أصلاً، فكان الاعتراف بوجود اليأس الشعبي يعادل اعترافاً اعتذارياً بالتحيز طوال ثمانية سنوات، وهو ما لم يحصل.

للاستدلال على مدى الخلل في الإعلام الأميركي خلال الانتخابات، كانت 87 صحيفة متحيزة بشكل كامل لكلينتون من أصل 91 صحيفة أميركية، 4 فقط كانت تنشر أخباراً إيجابية عن ترامب، وهي حسب الباحث مارتن أرمسترونغ، إشارة واضحة لتواطؤ مؤسسات الإعلام معاً، من أجل إيصال كلينتون للبيت الأبيض. وهذه قطعاً ليست واحدة من مهمات ذلك الإعلام في المجتمع أصلاً. فيما وصف الكاتب السابق لأكثر من عشر سنوات في "نيويورك تايمز"، مايكل غودوين، ذلك التحيز بأنه مخجل. ولا يمكن للأميركيين المعتادين نظرياً على نوع مختلف من الإعلام التعددي تقبّل هذا الضخ باتجاه واحد، ما أسهم في خلق ردة فعل سلبية تجاه كلينتون نفسها، مهما كانت التصريحات الجدلية التي يدلي بها ترامب في "تويتر" أو الفضائح التي تنشر ضده مثل اتهامه بالتحرش بالنساء.

من جهة أخرى، كان الكتّاب أو الصحافيون وحتى الخبراء الذين ينتقدون سياسات إدارة أوباما يواجَهون بكثير من الانتقادات من صحافيي وسائل الإعلام الرئيسية ومسؤولي البيت الأبيض، عبر حملات تحريض مكثفة مشتركة. وتبرز هنا قضية الباحث روجر بايلك جونيور، الذي انتقد في دراسة علمية، سياسة إدارة أوباما تجاه التغير المناخي، وتعرض لهجوم وحصار من قبل أكاديميين يساريين وصحافيين ومسؤولين ديموقراطيين لكونه عارض إدارة أوباما، كما يقول في مقال له قبل أيام في صحيفة "وول ستريت جورنال".

لا يصل الأمر بالطبع إلى وصف الإعلام الأميركي بأنه تحول إلى بوق للسلطة كما هو الحال في بلدان الشرق الأوسط مثلاً، لكن كثيراً من المحررين والصحافيين تربطهم علاقات وثيقة بدوائر السياسة التقليدية الأميركية، لتنطلق الكتابات من مواقف شخصية مسبقة.

وهنا تبرز نقطة اعتماد وسائل الإعلام بشكل كبير على محرري المكاتب، كسبب أساسي في التحيز الذي عانته التغطيات الأميركية. إذ فقَد المراسلون في السنوات الأخيرة، الحرية التي كانوا يتمتعون بها سابقاً، وتحديداً من المناطق الزراعية التي صوتت بشكل حاسم لترامب، فيما هوت أرقام العاملين في الصحافة بنسبة 60% عما كانت عليه العام 1990 (458000) وبلغت 183000 صحافي فقط خلال العام 2016، النقص بالطبع يقع على الصحف المحلية والإقليمية والمراسلين أيضاً، ما أعطى محرري المكاتب الكبرى سلطات أكبر حولت الإعلام إلى بروباغندا تحريرية، تنطلق من أفكار نخبوية.

مركزية الإعلام في المدن الكبرى كانت من أكبر الأسباب التي هوت بمصداقية الصحافة إلى حدودها الأدنى في التاريخ، كما تشير دراسة معهد "غالوب" في أيلول/سبتمبر الماضي بأن 32% من الأميركيين فقط يثقون بالإعلام. الصحافيون المحليون فقدوا القدرة على إيصال أصواتهم مع ابتعاد الإعلام الوطني عن الاعتماد عليهم كمصادر للمعلومات، ويرتبط ذلك بمشاكل بنوية في الصحافة نفسها، من ناحية تهاوي نسب الإعلانات عطفاً على تحول المعلنين نحو عملاقي التكولوجيا "فايسبوك" و"غوغل"، وما تبعه من هبوط في أرقام التوزيع لتصبح مناطق كاملة وكثيرة بلا صحف عملياً، في ولايات مثل نبراسكا وأوهايو على سبيل المثال، وهكذا كان الإعلام الأميركي يخاطب نفسه، ويتحدث عن الناس لا إليهم.

ومنذ العام 2000، ظهرت دراسات نبهت إلى خطر مركزية الإعلام وتهميش الأرياف وتناقص شفافية الإعلام الأميركي، حينها كانت الصحافة تعاني من أزمة ثقة مماثلة مع الناس الذين صوتوا لجورج بوش في الانتخابات على حساب آل غور المفضل عند الإعلام حينها. كما ظهرت مشاريع لصحافيين مستقلين حاولت تقديم صوت مختلف للناس، مثل مشروع "RFD-TV" وهو محطة تلفزيونية متخصصة لمخاطبة المناطق الريفية، ومشاريع فردية أطلقها صحافيون مثل جاكوب زلومكه في قرى نائية مثل فالينتاين في ولاية نبراسكا التي احتضنت مشروعاً إلكترونياً مميزاً تحت اسم "Fly Over Me"، وهي مشاريع لا تتعالى على الطبيعة الإنسانية الريفية بل تتواصل معها بلغتها وبنوع الموسيقى الذي تفضله لتتحدث مع أصحابها مباشرة، مع التركيز على عنصر الراديو المفضل هناك.

ومع التسليم بانهيار الإعلام كأحد أسس الديموقراطية الغربية، يخشى من تأثير الدومينو على مجرى الحياة العامة في الولايات المتحدة. لا جدل حول قيمة الصحافة نفسها، الجدل حول جعل الصحافة تعود لوظيفتها الأصلية.

والحال أن أزمة الإعلام الأميركي قد لا تكون سلبية بالمجمل، ربما هي فرصة حقيقية لتقديم أصوات بديلة في الولايات المتحدة، وفرصة لبروز الصحافة المحلية من جديد كقوة مؤثرة تستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن فهم جاذبية الأخبار الكاذبة طوال العام بالنسبة للأميركيين، من منطلق تفسيرهم للإعلام الحالي في البلاد بأنه جهة احتكارية للمعلومات. هذا الصراع الذي يقوده مدافعون عن حرية التعبير من مدوّنين وكتّاب وصحافيين، عمل بعضهم في وسائل إعلام كبرى سابقاً، يجب أن يقود إلى معايير أعلى للحرية أكثر مما كانت عليه منذ العام 2008 على الأقل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024