الاستحقاق النيابي: هل جرى حقاً تسريب بيانات المغتربين؟

حسن مراد

الأربعاء 2021/11/17
مع اقتراب مهلة تسجيل المغتربين اللبنانيين من نهايتها، تنشط الحملات الإعلامية لتحفيز اللبنانيين في المهجر على تسجيل اسمائهم في اللوائح الانتخابية.

بالنظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ومقارنة بانتخابات العام 2018 النيابية، يمكن ملاحظة نشاط ملحوظ من جهات عديدة، رسمية وحزبية ومدنية، لحث المغتربين على التسجيل تمهيداً للمشاركة في الاستحقاق المقبل، وهو ما يمكن احالته إلى سبَبين اثنين: أولاً انتفاضة 17 تشرين الأول، وما نتج عنها من بروز لمجموعات سياسية معارضة تتحضر لخوض المعركة الانتخابية المقبلة، كما بات لبعضها امتداد خارج لبنان، لا سيما في فرنسا.


من جانب آخر، يُنظر إلى المغتربين كضحايا للنظام السياسي اللبناني، بالإضافة إلى إقامتهم خارج البلاد، ما أتاح لآلاف منهم العيش في دول محكومة بسلطة القانون والمؤسسات، ما يحفز بداخلهم الرغبة بالإصلاح السياسي في بلدهم الأم. وعليه، هناك مزاج سياسي يعول على تجيير "غضب" هذه الكتلة الانتخابية في صناديق الاقتراع، رغم أن الأرقام لا تعكس تلك الحماسة المفترضة، مقارنة بأرقام العام 2018.

مؤشر آخر يدل على الأهمية التي يكتسبها اقتراع المغتربين: تواصل أحزاب السلطة معهم بصورة فردية وعلى نحو مباشر، رسائل نصية، رسائل إلكترونية، اتصالات هاتفية، ما ولّد تململاً في أوساطهم وعلى وجه التحديد في فرنسا، ليلجأ بعضهم إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن سخطه.

من خلال حساباتهم الشخصية وعبر مجموعات اللبنانيين، نشر عدد من المغتربين تغريدات ومنشورات تستغرب حصول بعض الأحزاب على أرقام هواتفهم والمقصود بالدرجة الأولى "حركة أمل" و"التيار الوطني الحر"، من دون استبعاد أن تكون أحزاب أخرى لجأت إلى الوسيلة ذاتها، علماً أن المنشورات والتغريدات تعدت حدود الاستغراب لتصل إلى حد توجيه اتهامات للسفارة اللبنانية في فرنسا ووزارة الخارجية اللبنانية بتسريب البيانات المذكورة.


وحتى قبل منح المغتربين حق الاقتراع، لم تتردد الأحزاب السياسية في التواصل معهم، وهو ما تجلى في بطاقات السفر الممنوحة لهم في المواسم الانتخابية. صحيحٌ أنه في العام 2018 لجأ بعض الأحزاب إلى الوسائل نفسها للتواصل مع المغتربين، لكن يُلاحظ بعض اللبنانيين المقيمين في فرنسا مضاعفة الأحزاب لجهودها.

وفي حديث مع "المدن" أكد فرح حنا، تلقيه اتصالاً العام 2018 من "التيار الوطني الحر"، في محاولة لاستمالة صوته في دائرة جبل لبنان الرابعة. وفي نهاية الأسبوع الفائت، تلقى هو وزوجته، كل على حدة، اتصالاً من الجهة الحزبية نفسها، ما يشير برأيه إلى أن الأمور باتت أكثر تنظيماً.

وسرد حنا تفاصيل المكالمات الهاتفية: يوم السبت، جرى الاتصال بزوجته من قبل مكتب "التيار" في لبنان. مباشرة بعدها، تلقى هو الآخر اتصالاً على هاتفه الشخصي من الرقم ذاته. عاود الاتصال بهم في وقت لاحق من رقم آخر كان بحوزته، وحين أخذ علماً بالجهة التي بادرت إلى التواصل معه، رفض حنا الإفصاح عن هويته، وأصر على معرفة المصدر الذي زود "التيار" برقمه، فكان الرد أن بياناته محفوظة لديهم من دون أي توضيحات إضافية، ما أثار غضبه.

في اليوم التالي، عاودوا الاتصال به على رقمه الشخصي، على اعتبار أنه لم يفصح عن هويته في اليوم السابق. هنا، أبدى تجاوباً مع المتصل لمعرفة الغاية من الاتصال. الحديث تمحور حول ضرورة التسجيل في اللوائح الانتخابية من أجل التغيير، وفقاً لحنا، الذي سأل المتصل عن إنجازات "التيار الوطني الحر" في السنوات الأخيرة في محاولة منه لاستدراجه، وهنا بدأ التسويق السياسي الذي بلغ ذروته عند التشديد على أهمية أن يحصل "التيار" على الأكثرية، لا سيما في الوسط المسيحي. المكالمات التي تلقاها كلٌ من حنا وزوجته أثارت لديه علامات استفهام: بداية كيف وصلت بياناتهم إلى مكتب "التيار"؟

في هذا الاطار، رفض حنا اتهام أي جهة بالتسريب، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن بياناته وبيانات أسرته مخزنة لدى السفارة اللبنانية، وبطبيعة الحال لدى وزارة الخارجية اللبنانية، من دون استبعاد جمع مكتب "التيار" لتلك البيانات بوسائل لا علم له بها. ولدى سؤال حنا عما إذا كان قد شارك سابقاً في أنشطة قام "التيار الوطني الحر" بتنظيمها ما قد يوفر الاجابة المطلوبة، أوضح أن دائرة معارفه تشمل محازبين "للتيار"، لكنهم على علم بميوله السياسية التي لا تنسجم مع خط "التيار". فقد كان حنا مسؤول حزب "سبعة" في فرنسا عند تأسيسه، كما ينشط اليوم مع مجموعة "نحو الوطن". 

كلام حنا يقود إلى استبعاد فرضية جمع البيانات استناداً إلى شبكة العلاقات التي يتمتع بها مناصرو "التيار" في الاغتراب، كما يروج البعض. فلو كان ذلك صحيحاً، لجرى الأمر على نحو مدروس، تفادياً للتواصل مع الخصوم السياسيين وما قد ينتج عنه من مشادات هاتفية.

يونان ناصيف تمكن من تسجيل جانب من مكالمة هاتفية دارت مع مكتب التيار وانتشرت بكثافة عبر مجموعات "واتسآب". وقال لـ"المدن" أن الاتصال المذكور تم مع زوجته لبنانية الأصل والمولودة في فرنسا، لكن صعوبة التواصل بينها وبين السيدة المتصلة دفعه إلى إتمام المكالمة عوضاً عنها. وعندما سأل عن الجهة التي زودت مكتب "التيار" برقم الهاتف، كان جواب السيدة: "السفارة"، ما دفعه إلى تسجيل باقي المكالمة وتكرار السؤال ذاته لترد عليه بالإيجاب مرة أخرى، وفقاً لما ورد في المقطع المسجل، قبل تراجعها عن كلامها واكتفائها بالقول "من فرنسا". هل كانت زلة لسان؟ أم مجرد افتراض من قبلها؟


يرفض ناصيف رفضاً قاطعاً إتهام السفارة اللبنانية بتسريب البيانات، إذ يكن كل احترام لهذه الجهة الرسمية المُمثِّلة للدولة اللبنانية في فرنسا. في المقابل، يرى أن ما تمكن من توثيقه، يُعتبر مؤشراً يستوجب تحقيقاً شفافاً لتبيان الحقيقة، بعدما جرى التواصل مع لبنانيين مقيمين في بريطانيا وكندا للغرض عينه ومن الجهات الحزبية نفسها.

ما جرى مع ناصيف وزوجته ينطوي على دلالات غير مطمئنة، وفقاً لما قاله "للمدن": فإذا كان "التيار الوطني الحر" قد حصل على تلك البيانات دون غيره، فذلك يعني أن المعركة الانتخابية لن تكون متكافئة، كما يخشى ناصيف أن يتحول التواصل مع المغتربين على هذا النحو إلى مقدمة تردعهم عن المشاركة السياسية مستقبلاً، حفاظاً على خصوصياتهم. من جانب آخر، فإن مجاهرة مكتب "التيار" بأن السفارة هي مصدر البيانات، قد تضفي عليه نوعاً من المصداقية التي لا يستحقها. فاللبنانيون المولدون في الاغتراب يثقون في الجهات الرسمية، لكنهم لا يعلمون تجاوزات الأحزاب. وفي نهاية حديثه مع "المدن"، تمنى يونان ناصيف على مناصري الأحزاب التأكد من قانونية الاتصالات التي يجرونها. فحتى لو كانت أحزابهم فاسدة، ليس بالضرورة أن يسيروا على خطاها، بل بوسعهم التصدي لتلك الممارسات غير القانونية (إذا ما ثبتت بالدليل الملموس) كمقدمة لإصلاح بعض من هذا الإعوجاج.

وما يؤكد جهل الأحزاب بخلفية مَن يتم التواصل معه، هي الرسائل النصية الموجهة إلى الجنوبيين والبقاعيين المقيمين في فرنسا. يشير فادي (اسم مستعار) في حديث مع "المدن"، إلى تلقيه رسالتين من "حركة أمل": الأولى العام 2018، قبل يوم من موعد اقتراع المغتربين، لتشجيعه على ممارسة حقه، لا أكثر. أما الرسالة الثانية فتلقاها في 31 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بخصوص عملية التسجيل في اللوائح الانتخابية. وما زاد من استغراب فادي هو ترشح أحد أقربائه في لائحة مُنافسَة للثنائي الشيعي، ما عزز لديه الشكوك بتسريب البيانات عشوائياً، ما أفضى إلى غياب منهجية العمل لدى الحركة.   

علاوة على ذلك، أشار عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى تلقيهم رسائل إلكترونية من جهات غير حزبية، تواصلت بدورها معهم بغرض حثهم على التسجيل، من بينها منظمة "كلنا إرادة". لكن، وعلى عكس الأحزاب السياسية، لم تمانع المنظمة المذكورة في توفير إجابة واضحة وشفافة لكل من يتساءل عن الطريقة التي حصلت من خلالها على بريده الإلكتروني.

المكتب الإعلامي لـ"كلنا إرادة" أوضح، خلال اتصال مع "المدن"، جمعه للبيانات عبر تقنية الخوارزميات، نافياً لجوء المنظمة إلى أي أساليب غير قانونية بعدما استعانت بمواقع مثل "فايسبوك" و"لينكد إن" و"ancestry.com" و"peoplefinder.com" و"zoominfo" و"addresses.co".



واعتبرت "كلنا إرادة" أنها لم تخرق خصوصية الأفراد الذين جرى التواصل معهم. فقد تمكنت من الاستحصال على بيانات المغتربين اللبنانيين لمجرد موافقة المعنيين على جعل بياناتهم الشخصية (مكان الإقامة، البريد الإلكتروني، الجنسية...) متاحة للعموم لحظة تسجيلهم في المواقع المذكورة. ووفقاً لمكتبها الإعلامي، فإن بإمكان أي متخصص في علم الحاسوب جمع تلك البيانات بصورة قانونية، وهي مسألة لا تتردد المنظمة في توضيحها لأي مغترب يبدي استغرابه. وختم المكتب حديثه بالإشارة إلى تلقيه رسائل شكر من عدد من المغتربين على مبادرتهم هذه.

وعليه، إذا كانت الأحزاب لجأت إلى تلك الوسيلة أو أي وسيلة قانونية أخرى، ما الذي يمنعها من تقديم إجابة واضحة للمتسائلين؟ ولماذا الارتباك والتلعثم عند طرح هذا السؤال عليهم؟ هل يجهل صاحب الاتصال آلية جمع البيانات، فيضع حزبه موضع شبهة؟ أم جرى بالفعل تسريب البيانات، وفقاً لما يتم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي؟ "المدن" حاولت الاتصال بالأرقام التي تواصلت مع حنا في محاولة لتبيان الموقف، لكن من دون رد منهم.

والحال، كلما تم تناول مسألة التسريب، توجهت الأنظار إلى السفارة اللبنانية في فرنسا، وهو ما يرفضه السفير رامي عدوان. ففي اتصال مع "المدن"، أكد علمه بالاتهامات الموجهة إلى البعثة الدبلوماسية اللبنانية في فرنسا، معتبراً أن الرد يكون من خلال الدور الذي تلعبه السفارة: فالسفارة تعمل، ولا ترغب في إهدار وقتها في هذا النوع من الردود، وفقاً له، مضيفاً أن السفارة لم تسرب على الإطلاق أي رقم هاتفي، إذ اتخذت كافة الاحتياطات التقنية للحؤول دون ذلك، حتى أن السفارة تتحفظ على أعداد المسجَّلين إلى حين انتهاء المهلة، مشيراً إلى تلقيه شخصياً دعوات للتسجيل على رقمه الخاص.

في المقابل، قلل عدوان من شأن الاتهامات بالتسريب، خصوصاً أنها أعداد محدودة مقارنة بآلاف المسجلين، وفقاً له، معتبراً أن كثرة التركيز على هذه المسألة يقلل من دور السفارة كمؤسسة تحظى بثقة المغتربين، ثقة عكستها أعداد المسجلين. فلو لم تكن السفارة محل ثقة الجالية اللبنانية، لما كانت شهدت إقبالاً على التسجيل، والكلام دائماً لعدوان الذي أبدى أسفه أن يكون موظفو السفارة موضع شبهة، منوهاً بمضاعفة جهودهم في الآونة الأخيرة حتى وصل الأمر بهم للعمل أيام الأعياد الرسمية كما في عطلة نهاية الأسبوع.

وختم حديثه مع "المدن" بالقول أنه إذا كان لدى البعض مآخذ على عمل الأحزاب، ليتم التوجه مباشرة إليها، متمنياً الارتقاء بالخطاب السياسي وبالمعركة الانتخابية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024