بشار الأسد في وحدته!

وليد بركسية

الثلاثاء 2020/02/18
ربما تكون الصورة التي صدرها رئيس النظام السوري بشار الأسد، في "كلمته المتلفزة" التي ألقاها، الاثنين، بمناسبة "انتصار" جيشه في أرياف حلب، أصدق ما قدمه منذ سنوات: احتفال هادئ وممل يليق برجل في منتصف العمر ضمن البقاء في السلطة بالقوة من دون أن يضمن معها شعبية جارفة، حتى ضمن البيئات الداعمة له كلاسيكياً، وكأنه يدرك سلفاً أن افتراض رؤيته يحتفل كقائد منتصر في الساحات مع "الشعب السوري" أو بين عناصر جيشه أو في مكان عام في حلب مثلاً، ولو كان محاطاً بحراسة مشددة، كان ليتجاوز حدود المنطق والإدهاش، عطفاً على مجريات الحرب في سوريا نفسها.

ظهر الأسد وحيداً في غرفة مغلقة يتحدث أمام كاميرا، وكأنه "يوتيوبر" يريد إيصال تحديث حول حالة قناته التي لا يتابعها أحد في "يوتيوب". ومن دون التمتع بحيوية وجاذبية صانعي المحتوى الشباب المعاصرين، أطلق عبارة "كلمة متلفزة" على ما قدمه، معتقداً ربما أنها كلمة "رصينة" تليق بمستوى رئيس دولة، رغم أنها تبدو كمصطلح مجتر من سبعينيات القرن الماضي، وإن كانت في الواقع أقرب إلى بث مباشر (Stream).


وبغض النظر عن التفاصيل التقنية، فإن حديث الأسد نفسه، بدا أوتوماتيكياً، وكأنه مهمة ثقيلة يجب القيام بها ضمن واجباته الوظيفية لا أكثر، ليس بوصفه رئيس دولة يقود فيها الشعب والجيش والسياسة في آن واحد، بل بوصفه موظفاً حكومياً في بلدة ريفية صغيرة في أطراف روسيا أو إيران، حليفاه الرئيسيان اللذين أمّنا بقاءه في الحكم، فوق كومة الخراب التي كانت في يوم من الأيام، بلداً يدعى سوريا، فيما تشهد البيئة الحاضنة للنظام تململاً متزايداً من شخص الأسد، بما في ذلك البيئة العلوية التي قدمت خلال العام 2018 على سبيل المثال احتجاجات علنية ضد الأسد، في مواقع التواصل وفي الشوارع، عطفاً على ملفات متعددة حينها، وصلت إلى دعوات نادرة لإيجاد بديل عن الأسد ضمن الطائفة نفسها.

وضمن هذا الجو، لا يمكن سوى الشعور بالحسرة على المتعة الضائعة التي كانت لتتحقق لو ألقى الأسد خطاباً مثلاً في مجلس الشعب أو ما شابه، ليقاطعه النواب بالتصفيق وهتافات "بالروح بالدم نفديك" وأبيات الشعر، بين كل كلمة وأخرى. لكن ذلك الظهور كان ليكون سوريالياً ضمن معطيات النفوذ في سوريا حالياً. وكان سيكون من المحرج جداً اصطحاب كل القوى الفاعلة التي أسهمت في نجاة الأسد وتقديم فروض الطاعة لهم على العلن، من رجال الأعمال الجدد إلى قادة الميليشيات المحلية والأجنبية إلى رؤساء الدول الحليفة، وغيرهم من القوى التي باتت تتحكم بالبلاد فعلياً.

وخلا المشهد ككل من أي رموز وطنية، باستثناء "سيادته"، لا أعلام ولا صور، بل طائر محنط خلفه، وزجاجة غريبة لا يمكن التأكد من ماهيتها. وسيكون من الممتع قراءة مقال متخيل بعنوان "قراءات متباينة لسينوغرافيا كلمة الرئيس الأسد" أو ما شابه، يحلل فيها جمع من المثقفين الموالين "الرموز الخفية والعميقة" لكلمة الأسد، وهو أمر يقوم به الإعلام الرسمي عادة، وبات مقصراً فيه في الفترة الأخيرة لصالح شبكة "روسيا اليوم" التي قدمت نصاً باهتاً عن الموضوع، خصوصاً أن الطائر الظاهر خلف الأسد يبدو كصقر محنط، بدلاً من النسر الذي يمثل شعاراً لـ"الدولة السورية".

وطوال السنوات الماضية، قدمت الصحف العالمية العديد من رسوم الكاريكاتير المتشابهة التي تصور الأسد المنتصر يجلس فوق كراسي تغطي خريطة سوريا التي تحولت معالمها إلى أنقاض، فيما ترتفع أعلام الحلفاء وتنكس أعلام "الدولة السورية"، ويمكن قراءة ذلك في خطاب الأسد، الذي يحاول تقديم تلك الحقيقة المربكة للسوريين في مناطق سيطرته، وبالتحديد إلى فئات الموالين، الذين باتوا يبحثون عن مفرزات الانتصار الموعودة، في وقت تئن فيه البلاد تحت مشاكل اقتصادية وخدمية وإنسانية، إلى درجة دفعت بسكان محافظة السويداء الجنوبية، للتظاهر في مشهد نادر، الشهر الماضي.

وعليه لم يكن غريباً أن يركز الخطاب مجدداً على فكرة عدم انتهاء الحرب، فالأسد الذي واجه ثورة شعبية طالبت بالحرية والديموقراطية العام 2011، لا يمتلك السلطة الكافية لإعطاء وعود حول الازدهار الاقتصادي كنتيجة لـ"الانتصار"، كما أنه لم يعد يتحدث باسم الشعب السوري ولا حتى طبقات الموالين له، منذ سنوات، مع تحول النظام في الواقع إلى كيان متهالك لا يمثل نفسه ولا مواطنيه، مثلما كان الحال سابقاً، بقدر ما يمثل مصالح الآخرين، بداية من مصالح حلفائه الروس والإيرانيين على صعيد السياسة الخارجية، وصولاً لمصالح رجال الأعمال على صعيد السياسة الداخلية، وهو ما تجلى عملياً في القرارات الأخيرة التي أصدرها الأسد شخصياً، بخصوص الليرة السورية التي تنهار أمام العملات الرئيسية، وانحاز فيها إلى طبقة التجار الجدد، على حساب الشعب السوري.

وهنا يظهر الأسد بواقعية، كرئيس ميليشا تتسلط على الناس للحفاظ على مصالح شبكة الرعاة التي أسهمت في نجاته، ما يشير بدوره إلى أن النظام في الواقع بات في أضعف حالاته، من ناحية بنائه كدولة ذات سيادة، ومن غير المفاجئ أن التقارير ذات صلة، بات تكرر منذ مطلع العام أن السؤال اليوم لم يعد متعلقاً ببقاء أو رحيل النظام نفسه ولكن بقدرته على توطيد دعائم حكمه قبل إنهاء الحرب التي تجتاح البلاد أولاً، وعلى استعادة السيطرة على أفواج الميليشيات التي باتت تفرض إرادتها على كل مفاصل صنع القرار في "الدولة السورية" تنفيذاً لطموحات اقتصاية ومصالح سلطوية.

يتجلى ذلك أكثر بالتهديد المبطن الذي حملته كلمات الأسد عن جيشه، وشروط حمايته للشعب بالانتماء للجيش أولاً، وإلا كان العقاب كما أثبتت السنوات التسع الماضية في سوريا بطبيعة الحال، حيث قتل أكثر من 224 ألف مدني سوري وتهجر أكثر من 13 مليون أخرين فيما يختفي أكثر من 144 ألفاً في المعتقلات، بحسب إحصائيات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فيما باتت سوريا أكبر كارثة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، في أقل تقدير.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024