"همفري، سعاد، والريفولي"... فيلم مسترسل لمحمد سويد

زكي محفوض

السبت 2020/11/21
عند المدخل إلى صفحة محمد سويد في "فايسبوك"، كما في أي صالة سينما، بوستر كبير يطالع زائرها ويحمل صور أحب الممثلين، إلى قلبه: سعاد حسني، وهمفري بوغارت، من دون أن يحدّد من منهما الأول في الترتيب. غير أن تشابك نظراتهما، رغم أن سعاد تقف خلف همفري، يبدو مقصوداً لكي يعبّر به سويد عن أنه كان يتمنّى لو التقى الاثنان ذات فيلم. نعم، ذات فيلم فقط وليس في علاقة شخصية، لأن محمد يشدّد في غالبية منشوراته عن نساء السينما أنهن عاشقاتُه هو، ولا أمل لأحد في منافسته على حبّهن: تلك التي تنتظره في مطبخ، ذات غرُوب، مقهى، مهرجان، غرفة نوم، عند شاطئ.

إلّا أنه، في 18 تموز/يوليو 2020، علّق على لقطة شهيرة من فيلم "كازابلانكا"، أو كلما يسميه "كذا نرحل"، اللقطة التي تضمّ إنغريد برغمان وهمفري بوغارت، فقال: "آخر ظهور لي مع إنغريد برغمان"، ما يعني حقيقة واحدة: محمد هو همفري! حقيقة سينمائية؟ ربما. لكننا لن نعرف أبداً، فعُمرُ محمد المجبول بالذكريات، كبير، ويسمح له بأن يكون همفري ذات يوم، ذات فيلم، ذات لقاء مع إنغريد... الخيال وحده يعلم!

لم يحدث في تاريخ السينما أن جعل مشاهدٌ مُخرجاً سينمائياً يصنع فيلماً من حيث لا يدري، لكن "نظرية استجابة القارئ" تشرّع تدخّل المُشاهد كشريك للمؤلّف في خلق المعنى والقصد من مؤلَّفه. وتُولي أهمية كبيرة للقارئ وتجربته مع الأعمال الأدبية، بعدما كانت الأهمية فقط للمؤلف وعمله، مضموناً وشكلاً. ويمكن تطبيقها على فنون العرض، حيث المؤلف هو المُخرج والقارئ هو المُشاهد. وعليه، تخضع صفحة محمد سويد في "فايسبوك"، مثلها مثل أعمال أدبية وفنّية كثيرة، لنظريّة استجابة القارئ.

ولمشاهدة فيلم "همفري، سعاد، والريفولي"، يكفي إذاً دخول صفحة المخرج في "فايسبوك" المفتوحة للعموم، بعقلية مُشاهِد لا كزائر يتسلّى بقراءة محتويات المنشورات، يكرّها نزولاً وصعوداً بالماوْس أو بالسبّابة. وحدَه هذا المُشاهِد الشغوف، الذي يقرأ ما بين السطور ويرى ما وراء الصورة، يستطيع جعلها شريطاً سينمائياً يتجدد كل الوقت، على هُدى اقتراحات محمد في منشوراته.

مزايا العمل وآلية الفُرجة
من مزايا شريط سويد السينمائي نشوء علاقة جدلية بين البداية والنهاية، المتغيّرتين دائماً مع المحتوى المتراوح بينهما. وذلك كله يتغيّر أيضاً بحسب مزاج المخرج ومخيّلة المُشاهد ورغبتيهما على حد سواء، ضمن أحلى ممارسة للديموقراطية: المُخرج يُصْدر منشوراته والمُشاهد يتلقّفها أولاً كمادة للقراءة/المُشاهَدة لا تلبث أن تشحذ فضوله فيطلق العنان لمخيّلته، وهذا شرط لكي يكون مُشاهداً، ثم يحمّلها معنى مختلفاً أو قصداً جديداً.

وحتى لا يختلط الأمر على الزوّار الراغبين في أن يكونوا مُشاهدين، إليكم سير هذه العملية اليسيرة: بعد الحَمْلقة في البوستر الجميل والتحمّم بنوستالجياه الدافئة، يبدأ النزول في الصفحة ليطالعنا المنشور الأول الذي يشكّل عادة البداية، إلاّ أن هذا المطلع يشكّل في الواقع، نهاية الفيلم أو إحدى نهاياته، ما لم يظهر منشور جديد في تلك اللحظة، يشكل بدوره نهاية جديدة.

وذلك لأن المشهد فوق في مطلع الصفحة هو الأول مكانياً، لكنْ ليس زمانياً. وأما المشهد الأخير أو الأول زمانياً، فهو البداية الفعلية التي تقع في قاع الصفحة، ويحدّدها المُشاهِد من خلال تحديده العمق الذي يرغب في بلوغه. والحق أنه كلّما ازداد العمق ازداد الانجذاب إلى هذا الفيلم وخفَت النَفَس. ولمزيد من السهولة، يمكن اختيار الـ"بداية" ومن ثم الصعود لبلوغ أي "نهاية". تجربة غريبة قَوِي، لكنها تستحق خوضها!

البداية المفترضة
للغوص في هذه الفكرة قليلاً. مخرج يصنع فيلماً من دون علمه، يبدأ من بداية ما غائرة في قاع صفحة "فايسبوك" ليطفو على نهاية تتغيّر! ينبغي تحديد منطلق زمني وأدبي لنيّة مفترَضَة لدى محمّد سويد على تفريغ نوستالجيا ما، مكبوت ما، ذاكرة ما، أو معرفة أو رأي أو موقف. يعني نهاية ما في الفضاء الرقمي، والهدف وراء ذلك كله.

في 5 حزيران/يونيو 2020، كانت كورونا قد شدّت خناقها على حياتنا مناصِرةً الانهيار الشامل وفساد السياسيين وعبثهم. في ذلك التاريخ، قرر السينمائي والكاتب إصدار مرثية، هذه مقتطفات منها: "روحاً وجسداً، وضعَنا كورونا والحَجْر مع قَدَر الغُرف المقبضة"، فازددنا توجساً بالموت، وترقّب الموت أسوأ من خشيته، وليس أدل على استجابتنا لمغازلة الموت مما تبارى فيه كثيرون، في نبش صورهم من أيام طفولتهم وألبوماتهم الشخصية، ومما تهافتنا على استحضاره من تذكارات ووجوه وأحداث، ومما انبرينا في نشره من مراثٍ واعترافات وأغانٍ تخطب الود وتفتح الجروح، وفي اختيار صورنا الشخصية ونصوصنا الذاتية، نبدو كمن يوضب حقيبة، وما نحن في كلماتنا المنثورة في "فايسبوك" إلاّ كمن يقرأ في مذكرات ضريح..

في ذلك اليوم أيضاً وقبل كتابة المرثية بقليل، بدّل سويد صورة همفري بوغارت الملوّنة الظاهرة حالياً، بالصورة الرمادية المعهودة للممثل. وكأنه يعلن استعداده لـ"صنع فيلم جديد". والمذهل أن هذا الفيلم يبدأ بوداع المرثية، وأن ما تلاه يقوم مقام الاستعادة "فلاش باك" إمعاناً في التوديع حتى الاستقرار على نهاية سيستمرّ تغيّرها طالما بقي المخرج والكاتب حياً. وقد يظن ظانٌّ أن هذا "العمل السينمائي" سوداوي وقاتم. إلاّ أنه، على العكس، ساخر وضاحك، مليء بالحياة وصخبها ولذّاتها، ومآسيها بالطبع، كأن المُشاهد، في مراجعته تلك المواضي الرحبة، وهو ممسك بيد محمد سويد، سيرغب في اختيار أحدها ليستريح فيه من كل هذا الرجوع إلى الوراء الحاصل في الكوكب، قبل أن يعاود انطلاقه.

ويمكن اعتبار تلك المرثية، في قاع شريط "همفري، سعاد، والريفولي"، بداية زمنية مناسِبة لعمله المسترسِل. ومن ذلك القاع فصاعداً، أخذ محمد يُغدق على مشاهديه وبسخاء بالغ بكنوزه: ملصقات، معلومات، فيديوهات، أخبار عن أَفذاذ فنون العرض، إعلانات، نصوص. وصنع منها نهايات راح يكدّس بعضها فوق بعض. فهل كان يقصد بالفعل أننا "قيد أنملة من الوداع الكبير"، أو "النوم الكبير"، كما وصف حالنا في المرثية أعلاه؟

ليس بعد. فروح الدعابة لدى محمد مازالت متّقدة وقادرة على تأجيل ذلك النوم وإطالة تلك الأنملة. ومن إحدى النهايات في تاريخ ما، رسمٌ مصفرّ، كدليل على قِدمه، لرجل يتلوّى ألماً، رأسه مرمي على طاولة أمامه وقبضته مشدودة، ويتبيّن أن الرسم إعلان قديم لمرهم يداوي البواسير المؤلمة اسمه "الزمبوك". نهاية مؤلمة بالفعل لأن نتيجة العلاج الذي تقدّمه رهن بتجربة الدواء، ما يعني أنها "نهاية مفتوحة على احتمالات"، تماماً كما في أعمال أدبية وسينمائية.

النهايات
نعم، من يودّ مشاهدة "همفري، سعاد، والريفولي" عليه أن يبذل مجهوداً لكي يستمتع أكثر بتجربته، فكثيرة هي المنشورات التي تحفّز المُشاهد على البحث، لا بل التعمّق في البحث، عن مصوّر أو عن فيروز الجميلة قبل التجميل أو عن ممثل كجايمس دين وكل صناديد الأفلام في شبابهم وكهولتهم، أو موسيقي كمايلز دايفيس، أو عن والدَي تاركوفسكي، المخرج الروسي، وطفولته، عن بلد أو ممثلة كسعاد، الأوفر حظاً، وراكيل ويلش في معركته معها على "ترسيم الحدود" بينهما، عن أشاوس لبنانيين مسلحين في 1860، عن هيتشكوك عابثاً أمام عدسة جانلو سْياف أو منادماً جمجمة هاملت، أو عن جماعة البولشفيك، أو عن بائعات هوى في إيران، طبيب ليو تولستوي، أدباء وشعراء ومفكّرين كألبير كامو الراقص وبورخيس الحالم، أو فنانين تشكيليين كدالي في شبابه، أو عن لقطة واحدة مدتها 7 دقائق المخرج ميكالانجلو أنطونيوني في فيلمه "عابر سبيل"، وفيها تنتقل الكاميرا من داخل غرفة فندق، وتعبر بين قضبان النافذة، إلى ساحة خارجية لتلتفت أخيراً إلى نقطة انطلاقها وسط حشد من الفضوليين.

وذلك كله موضّب في نهايات متعاقبة، تَلقَى تفاعلات من الزوّار/المُشاهدين، وتشهد مزاحمات ذكورية على حب الممثلات، تفاعلات تتخطّى الـ"أعجبني" على أنواعه، إلى مناقشات أو تصويبات. غزيرة هي مَشاهد هذا الفيلم الفايسبوكي وغنيّة نهاياته ومُثرية، يتهيّأ فيها للمُشاهد أن الماضي حيّ من دون أن يتوهّم أنه سيدوم.

إنه ماضٍ زائل يبلغ ذروة توهّجه إذا أثار فضول المُشاهد وشحذ خياله. إنه ماضٍ لعبته الإغراء والإغواء، مع أنه أحياناً يحاول استنهاض المُشاهد الغريق. "يكفي المضي قدماً لكي نحيا. يكفي التوجّه مباشرة نحو كل ما نُحب"، من فيلم "ألفا فيل" الديستوبي السوداوي، للفرنسي جان لوك غودار العام 1965.

وأحياناً أخرى، يزول الماضي سريعاً بفعل جرعات الواقع التي يحقنها المخرج الكاتب في شريطه السينمائي. هو لا يُكثر منها، لكنها تحل في مكانها وزمانها المناسبين. وكأن الحدث الفج يأتي ليسعف المخرج على انتشال المُشاهد من رحلته الواهمة في الفائت. ومعظم هذه الجرعات يكتبه كتابةً لا تخلو من السينما وهمومها.

ومن تلك الجرعات أن محمد لم ينشر صوراً عن انفجار 4 آب/أغسطس، فلعلّه اعتبر ذلك الحدث أشد هولاً من أن يؤرّخ في حينه. غير أنه كتب بعد مدة: "ما أكره الصورة حين يستبيح التلفزيون محو ما تبقى من حياة عماد وصوت أمه، وما أبشع التلفزيون حين يُسقط المصور من صورته وينعاه من دون اسمه"، مستنكراً إقدام محطات التلفزيون، من غير حق، على إعادة إنتاج لقطة محددة للانفجار في كليبات، حُذف منها اسم الفتى عماد، صاحبها، وحواره مع أمه. ونقلت اللحظات التي سجلت دمار البيت على رأسيهما.

وفي انتحار علي الهق، "النبيل في ترفعه عن الأسباب المُجملة التي تجعل حوادث الانتحار متشابهة في الضائقة الاقتصادية الراهنة"، في شارع الحمرا ببيروت وهو ابن الهرمل، أنهى محمد منشوره ذا الصلة بالفقرة التالية: "في الانجليزية يُستبدل الانتحار بعبارة تُفقدها الترجمة الكثير من حساسيتها. مع هذا، أجد في ترجمتها العربية المباشرة والحرفيّة كل العبرة. فحين ينتحر شخصٌ، يُقال He took his life. علي الهق أخذ حياته، وعلى حد القسوة الشفافة التي أخذ بها حياته، أحترم رغبته. وبمزيد من القسوة أيضاً، لا يعنيني أسف الآسفين في كل حدث مماثل. أما الشاهد المزيّن ببطاقة الهوية والسجل العدلي والعلم وآيات الكفر والجوع، فهو شاهد مثوانا الحالي لو كان الأسف من علمنا ودرايتنا".

وذات منشور، صب محمد جام سخريته السينمائية القاسية على رجل ستيني مسلّح: "التقطتُ هذه الصورة ولم أكترث لإظهار وجه حامل المسدس. مؤخرته تحكي عنه. لم أكترث لتفاصيل المكان الذي يزوره اللبنانيون لإتمام معاملاتهم. وليس مركزاً أمنياً، ناهيك بأن حامل المسدس ليس رجل أمن ولا تحتاج معاملته إلى التشبيح. التقطتُ صورته من الخلف، فبدا أن له وراء وليس له أمام، فلا حاجب ولا عين ولا فم ولا صدر، بل ولا قضيب غير مسدسه المحشور فوق حزامه في الخلف. هناك أناس سيماهم في مؤخراتهم. وذلك الرجل من تلك المؤخرة".

أما جرعة الواقعية الأبرز في "همفري، سعاد، والريفولي" ففي الرسائل التي خطّها المخرج الكاتب إلى والدة "ح.د." مع الصور والمواقف التي جمعها له ونشرها. ولعلّها كانت تعبّر عمّا كان يختلج في نفس محمد من ذهول وهو يدرس شخصية ذلك المسؤول، ربما ليجد كاراكتيراً سينمائياً مكافئاً لها. وربّ مُشاهد يرى أنه شبيه بكاراكتير آيموس هارت في فيلم "شيكاغو" (2002) لروب مارشال، عندما غنّى:
"سيلوفان، كان ليليق بي اسم السيد سيلوفان. لأنك تستطيع أن ترى من خلالي وأن تمشي بجانبي من دون أن تعرف أني موجود".

الريفولي والنهاية
ولكشف علاقة محمد بسينما الريفولي، ينبغي للمُشاهد أن يقرأ "قبلتي الأولى" المقال الذي كتبه لمجلة "الدراسات الفلسطينية" حول علاقته بوسط بيروت وصالات السينما فيها، لا سيّما منها الريفولي التي أسهب في وصف تدميرها بالمتفجّرات من زوايا مختلفة، بعد فشل هدمها بالطرق التقليدية. وكيف انهارت أخيراً فانكشف البحر الذي كانت تخبّئه خلفها. أما البحر إذ رأى ما الذي حلّ في وسط بيروت من بعدها، فكتم حزنه عليها 30 عاماً قبل أن ينتقم ويرسل عَصفه المدمّر في 4 آب/أغسطس 2020. ولعلّ هذا التحليل، الذي هو محض خيال مُشاهد، أقرب إلى الواقع من نتائج التحقيق الذي لم تنتهِ أيامه الخمسة بعد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024