هل انتظرنا موت الساروت.. لنرثيه؟

محمود اللبابيدي

الأحد 2019/06/09
اختار الساروت، على طريقته، أن يذكرنا بنفسه؛ فرحل. هكذا ببساطة، خرج من محفل التراجيديا السورية، ليدخل عالمه؛ "جنة الشهداء"، كما كان يحلم بها في كل أناشيده. لا جدل في هذا، الساروت اختار عالمه الأخير، أياً كان وصفه، بنفسه. ذلك السهم الذي ظل يشد خاصرته إلى حمص، أخذه حيث الهوى الأبدي.

عالم الساروت النهائي، هو بامتياز، عالم اسطورته؛ حيث سيلتقي باخوته وخاله، و60 من رفاقه في "كتائب شهداء البياضة". لا حاجز سيعيقه بعد اليوم من "للعليا وصلنا". هكذا أراد، وهكذا خرج، معفراً بتراب أرض المعركة، كبطل من الميثيولوجيا الإغريقية، بنكهته الإسلامية.

ليس للساروت اليوم من ينتظره كي يغني. في حياته؛ كل من التقاه، طلب منه أن ينشد، في لحظة ما ولو خفية. في أكلح ساعات الحصار، حيث البراميل تتساقط كالمطر، كان يكافح بغنائه. صوته الأبح، كان علامته الفارقة، لا حراسة المرمى. به كان يطرد أشباح حمص القديمة المحاصرة، وهي كثيرة، كتعويذة أو تميمة.

إذ ليس طيف خالد بن الوليد، وحده، من يقطن حمص القديمة، بل عالم من الأسطورة متداخل مع عالمنا، خرج بعض معالمه مع تلك الفيديوهات لرفاق الساروت يرددون خلفه فصولاً من ملحمتهم، في أقبية بعيدة من القصف.

لا بد أنه جدّف في لحظة ما. وحدهم الآلهة لا يجدفون، هكذا نكذب على بعضنا ليستديم هذا الخدر اللذيذ. خدر الانعتاق من واقعة الوقائع، لحظة الكآبة السورية المقيمة في الروح. لا بد أنه جدّف في تلك اللحظة التي تخلت فيها الآلهة عنه، ليخرج مرغماً من أرض أراد بكل كيانه أن يموت فيها. لا أحد يملك القدرة على النفي، فكل الأبطال جدّفوا، عندما أدركوا عبثية تلك اللحظة. لا بد أنه سمعها تهمس في أذنه: لن تموت في حمص. لن تعود ولو جثة. هكذا على الأقل، يكون عقاب الآلهة. وإلا كيف كان سيستقيم معنى الأسطورة؟

وحين غادر حمص، لم تكن عقوبة النظر فوق الكتف، أقل من التحول تمثالاً من ملح، سرعان ما سينحل في سيولة الألم. مهما أطال شعره، ومهما مشى بين ألغام "داعش" و"النصرة"، ومهما وضع من عصائب. كان قدره قد تقرَّر. في ذلك المدى الأبعد، خارج العديّة، تمرّغ الساروت بالتجاهل، بإنكارنا حجم التراجيديا التي يعيش. اعتقدنا أنه بالخروج، بات كالآخرين، مجرد تائه آخر.

هل كنا بانتظار موته، كي نبكيه؟ هل يشفع تكرار أناشيده القديمة، ولو تُلِيت كالمزامير؟ لكن، على من نقرأها؟ مِن كثرة توّحد الأرباب، في عُصاب واقع حربنا، لم نجد وقتاً للسخرية. فالتراجيديا السورية، أكثر تراجيديات العالم غلاظة قلب، ولؤماً. أيكون ذلك، من عيشنا اللحظي فيها. وكأن التراجيديا من اختصاص المسارح فقط، أو كأنها شأن المشاهدين القابعين خارجها، لا من يؤدون أدوارهم.

حسناً، لم يكن الساروت يوماً هكتور، لا ولم يفكر يوماً بنزال أخيل. هكذا يريدنا الواقع أن نفكر فيه. نعم، كان الساروت فحسب. لكنه هو أيضاً مثل أبطال الميثيولوجيا، بطريقته. قد يعتقد البعض أن ذلك هو جوهره؛ بساطته. لا أبداً، تلك سمة مرافقة لما هو أصله الكياني؛ رعويته. هو مغن جوال، متشح بالسواد، يبكي أخوة ورفاقاً.

هو الذات الرعوية؛ غنائية بَدَوية كالحة على الشفاه كالملح. الحزن متجذر فيها، حتى يكاد غناؤها لا يستقيم إلا نشيجاً. هو البحّة تبحث عن صوت ترثيه. غنائية رعوية، يصلح فقط أن ينشدها مؤرخون جوالون يمتطون صهوة النسيان.

مهزوم بهزائمنا، ومنتصر بذاته الوحيدة، لا مُلكاً أراد، ولا مملكة. فقط لو أمكنه العودة "شهيداً". كانت تلك أمنيته الوحيدة. قالها في كل أنشودة. بكى نفسه حتى أعياه الدمع. كم مرة طلب من أمه أن تزينه لتزفه؟ شئنا أم أبينا، صدقنا أم لم نصدق، هو الآن في عالمه الآخر، يطرق باب الغيب ويقارعه متفقداً من حضروا ومن سقطوا. هناك، هو أسطورة تعيش أسطرتها. أما هنا، ربما سيطول الوقت قبل أن ندرك حجم هذا الفراغ من الهراء.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024