"سابرينا" الإيمان والهرطقة: الإله يستمّد قوته من عبيده..لا العكس!

وليد بركسية

السبت 2021/02/13
بين الشياطين والسحرة في العوالم السفلية المظلمة تدور قصة سابرينا سبيلمان، نصف ساحرة ونصف بشرية يتمزق قلبها بين ولاءات متعددة منذ عيد ميلادها السادس عشر، عندما تخط أقدار متشابكة مصيرها المحتوم كمنقذة الوجود أو مسيحه المنتظر، ضمن مغامرة مرعبة لا تخلو من كوميديا ممزوجة بفلسفة عميقة.

وللوهلة الأولى يبدو المسلسل الذي طرحته شبكة "نيتفلكس" بعنوان "Chilling Adventures of Sabrina" في أربعة مواسم كان آخرها في كانون الأول/ديسمبر الماضي، مثل عشرات الأعمال الأخرى، سينمائياً وتلفزيونياً، التي تتحدث عن الخليط المثالي بين العنصر البشري ونظريه الخيالي/الفانتازي سواء كان ذلك الجزء مصاص دماء أو زومبي، لكن تلك الفكرة تتبدد بسرعة لأن دمج سابرينا في بُعد ديني مستمد من الأديان الابراهيمية أولاً والميثيولوجيا الدينية المستندة عليها ثانياً، ينقل العمل إلى بُعد فلسفي يناقش معنى الإيمان في الوقت الراهن الذي يشكل فيه الدين مصدراً أساسياً للصراعات والحروب.

وطوال المواسم الأربعة، تتوالى القصص الدينية والأساطير القديمة بتركيز شديد أو بتلميح بسيط، ويبقى الشيطان لوسيفر، وهو الملاك المتمرد على "الإله المزيف"، وعشيقته ليليث، الساحرة الأولى التي أنقذته عند هبوطه على الأرض من مملكة السماء، أبرز شخصيتين من هذا النوع بسبب الدور الكبير لهما في تطور الأحداث ودفع شخصية سابرينا للتحول من مراهقة بشرية تملؤها الشكوك وتعيش وهم الصواب السياسي، نحو ملكة الجحيم التي تمتلك قدرات إلهية تحاكي معجزات المسيح قبل ألفَي عام.


وفيما تجري الأحداث عموماً في عوالم الأرض والجحيم تبقى مملكة السماء غائبة، لكنها حاضرة طوال الوقت في خلفية الحوارات. ويظهر الإيمان من الجانب المناقض لها تماماً. فمجتمع الساحرات يعبد لوسيفر، سيد الظلام، بشكله الوحشي، ويرجو عودته إلى شكله الملائكي/البشري ليحكم العوالم، لكن الدين القائم هناك هو نسخة مناقضة للمسيحية الكاثوليكية تقريباً، حيث تقام طقوس العبادة في كنيسة الظلام التابعة لفاتيكان الأموات، وتتعدد الطقوس من معمودية الظلام إلى القداس الدنس، ويحمل رجال الدين ألقاباً دينية تقليدية مع صفات "شريرة"، ما يمثل ربما السخرية المطلقة من الإيمان بوصفه وجهة نظر لا تستحق التقديس.

وليس من المفاجئ بالتالي أن يكون سيد الظلام هو الإله الحاضر في السلسلة بوصفه الرب الأقوى، لكن المذهل حقاً هو تمرد الساحرات عليه وتخليهن عنه وإذلالهن له بشكل يفضي إلى خسارتهن للقوة السحرية التي منحها لهم. وفيما يريد لوسيفر من تلك الخطوة إجبارهن على العودة إلى حظيرة طاعته، فإنهن يلجأن إلى آلهة منسية أخرى بدلاً من الرضوخ، ما يجعل لوسيفر فجأة شخصية هامشية خالية من القوى والجبروت. الإله يستمد هالته وسلطته من الجموع التي تعبده وتؤمن به، لا العكس. تظهر السلسلة تلك المقاربة بشكل مذهل، من دون أن تشير إليه صراحة.

يرتبط ذلك عضوياً بشهوة السلطة التي تحرك الأفراد في السلسلة، وكيفية تعليبها وتقديمها للجموع تحت شعارات متعددة: الإله الإبراهيمي بشعارات الأديان التقليدية المعروفة القائمة على الثواب والعقاب مقابل الخضوع. لوسيفر الملاك الذي تخلى عن أصله السماوي ليعلب فكرة الحرية والتمرد لأتباعه الظلاميين، وسابرينا التي تسعى للقوة من أجل تحقيق مبادئها عن العدالة والمساواة ومتلازمة إنقاذ من حولها حتى عندما لا يحتاجون إلى ذلك الإنقاذ، وكأنها نبي معاصر يكرر كل ما يقدمه الرسل المقدسون من خطابات حول إنقاذهم للبشرية من الأهوال القادمة.

وعادة ما يتم الحديث عادة عن التدين بوصفه مدخلاً سياسياً للسلطة، لكن السلسلة رغم عرضها لنماذج من هذا النوع، تتجاوز ذلك كلياً لمناقشة الإيمان نفسه بوصفه مشكلة معاصرة. وبينما تجري أحداث السلسلة في عوالم دينية تقنياً إلا أن السؤال الأساسي فيها قد يكون كيف يمكن للمرء أن يثق بالقدرات العقلية لشخص بالغ مازال يمتلك أصدقاء خياليين؟ وتتجاوز ذلك نحو مقارنة المنظومات العقائدية للأفراد (Belief System) من أولئك الذين يؤمنون بالإله المزيف إلى من يؤمنون بسيد الظلام وصولاً إلى سابرينا التي تكفر بكل شيء وتؤمن بأصدقائها وعالمها المادي، في الموسم الأول على الأقل من السلسلة. والنتيجة أن ما يؤمن به شخص ما ليس سوى هرطقة عند شخص آخر، وتلك الهرطقة هي محور وجود آخرين بدورها.

وفيما تتكرر عبارات كثيرة في الميديا وحتى في وسائل التواصل، عند الحديث عن الإيمان بوصفه يقيناً يعطي أصحابه شعوراً بالطمأنينة ما يستوجب الحسد، فإن ذلك اليقين مهما كان اتجاهه، يصبح مرادفاً للفراغ القاتل لأن الحياة تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات. ويتجلى ذلك في نهاية سابرينا، التي تندمج مع العدم وتمتص كل من حولها كقوة تدميرية لا يمكن إيقافها، من منطلق وحيد هو تخلي سابرينا تدريجياً عن أصلها البشري القائم على الشك نحو جانبها الظلامي/المقدس كملكة للجحيم ورسولة للعدم.

وبقدر ما تبدو تلك الصراعات الفلسفية مروعة ومخيفة ومبهرة في وقت واحد، إلا أنها لا تظهر في العمل بشكل مباشر بل تشكل خلفية للأحداث فقط، حيث تركز السلسلة على خلق الأحداث وتقديمها في إطار بصري مذهل يمثل رحلة ممتعة بحد ذاتها. ولعل السلسلة تنجح في خلق عالم يضج بالحياة والتفاصيل، حتى ضمن عوالم الموت نفسها. والأجمل هو الاحتفاء بالضعف والشك البشري كخصائل تذمها الأديان عادة بوصفها ضعفاً. ومن هنا تأتي الكوميديا في السلسلة ممتزجة مع الأداء التمثيلي العالي لنجوم العمل وتحديداً ميشيل غوميز في دور ليليث، وميراندا أوتو ولوسي دايفز في دوري زيلدا وهيلدا، عمتي سابرينا.

وتفتح لعبة الوعي والإيمان والإدراك والرمزيات المتعلقة بالخير والشر والرب والشيطان في السلسلة، المجال أمام أسئلة كثيرة متعلقة بالإيمان الديني وما حدث في الماضي وماهية الخلق ومعنى الوجود، والفائدة من الإيمان نفسه في القرن الحادي والعشرين ليس للأفراد التائهين الباحثين عن النجاة ضمن عالم اقتصادي متقلب، بل أيضاً في وطأة جائحة كورونا التي أعطت لمحة عما يمكن أن يفعله المؤمنون لإثبات تفوق الدين على العلم، في عدة دول من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024