الذكورية.. ليبرالية أيضاً

بانة بيضون

الأحد 2019/03/24
أعرف سيدة لبنانية أبرحها زوجها ضرباً ولَكماً على وجهها حتى أسقط كل أسنانها الأمامية. ولدى ذهابها إلى المخفر، أجبرت على دفع مبلغ 250 دولار للطبيب الشرعي لكي يكشف عليها ويؤكد إصاباتها. ولأنها لم تكن تملك المبلغ كاملاً، وافق الطبيب الشرعي على أن يتقاضي 200 ألف ليرة لبنانية، شرط أن تظل بقية المبلغ دَيناً عليها. وكانت هذه السيدة قد ارتضت سابقاً أن تعود إلى مُعنِّفها، كون المحكمة الجعفرية لم تحكم لها بحضانة ابنها، الذي لم يكن يتجاوز عمره العامين. وكان عمر ابنها ذريعة للقاضي ليجرّدها من حضانتها ويبادر إلى تلقينها درساً بأن مَن تريد الطلاق لا تستحق رؤية ابنها.


وقبل فترة قصيرة، تعرضت إحدى الموظفات في حانة "راديو بيروت" لاعتداء جنسي، بدافع من المعتدي لتحفيز إلهامها الفني وحريتها في التعبير، بحسب ادعائه. أما صاحب الحانة فقد ارتأى أن الموظفة كانت تبالغ كثيراً لما طلبت ألا تُضطر إلى العمل مع المعتدي عليها إلى حين توقفها عن العمل بعد تقديم استقالتها.

قد تتباعد الحادثتان ظاهرياً، لكن البيئة الحاضنة لكل منهما هي فعلياً واحدة. فالعقلية الذكورية القائمة، والتي تتغذى من مفهوم سيادة الرجل على المرأة كحق موروث، تجد مبرراتها الثقافية والأيديولوجية في سياقات وبيئات مختلفة. فإن لم تستطع التعبير عن نفسها بمحاكمة جسد المرأة وتقييد حريته أو تعذيبه، بأي حجة كانت، تحيل حجتها إلى رغبتها في إطلاق حرية هذا الجسد عبر الإعتداء عليه. وذلك ليس سوى لأن المرأة، التي هي سيدة جسدها والتي لم تنتزع حريتها من أحد سوى نفسها، هي معضلة في نظر النظام الذكوري.

قد نظنّ أن نضالات النسوة تختلف جذرياً من بيئة إلى أخرى في لبنان. فكيف لنا أن نقارن بين إمرأة تعيش مثلاً تحت سقف ذكورية مهيمنة ومعنِّفة، لا تملك في ظل الظروف التي تعيشها سوى أن تسعى للحفاظ على حياتها تحت وطأة العنف الجسدي اليومي الممارس عليها.. وبين تلك التي نجحت بطريقة أو بأخرى في التحرر من هذه السيادة الذكورية تبعاً لظروف حياتها أو نشأتها؟

لكن المشكلة تكمن في أن تحرر المرأة من قمع سلطة ذكورية مباشرة، سواء كانت الأب أو الأخ أو الزوج، أو انعدام هذا القمع من أساسه، لا يحميها من ذكورية المحيط الأكبر الذي تعيش فيه، والذي يتبرع بمحاولة تعليمها درس الطاعة مجدداً.

الكل يعرف ربما  النكتة المتداولة عن الشاب اليساري الذي يعتبر أن الطريق لتحرر المرأة يمر أولاً عبر جسده، وبذلك يلاحق رفيقاته بدعوات ملحة، في سياق أو من دونه، للعبور من خلاله نحو تلك الحرية. المشكلة الفعلية أنها ليست نكتة تماماً. فما حدث مع الموظفة في "راديو بيروت" ليس سوى صدى لحكايات الكثيرات من النسوة. فالعقلية الذكورية هي نفسها، حتى لو تغيرت حججها الثقافية، والمرأة التي هي حرة في جسدها وعلاقاتها الجنسية، عليها، في نظر تلك العقلية، أن تكون متاحة للجميع. كما أنّ استباحة جسدها في هذا السياق، ليس سوى رغبة في عقاب هذا الجسد المتفلت، الحر في رغباته. فكيف لهذا الجسد أن تكون له حرية القبول والرفض معاً.

فإن كان قبول المرأة والتعبير عن رغبتها، في نظر العقلية الذكورية التقليدية، هو فعل تمرد يجب معاقبتها عليه بحجة الشرف أو الدين.. فإنّ رفضها، ضمن العقلية الذكورية المنفتحة، أو الليبرالية، هو أيضاً فعل تمرد يجب معاقبتها عليه! وهنا المفارقة السوريالية التي كانت لتبدو مضحكة للغاية لو أنها لم تكن واقعاً. وهو واقع مخيف. فالذكورية الليبرالية، تشابه تماماً القَبَلية، بل إنها أسوأ من الذكورية التقليدية أو المتمدنة، في استباحتها لأجساد النساء بلا قبول منهن.

ما يظهر لنا بوضوح من تلك العقلية، هي تلك الإعتداءات التي يعلن عنها مَن تعرضن لها، وهن قلّة من القليلات. الغالبية تختار السكوت لأسباب عديدة، قد تتراوح بين عدم قدرتهن على المجاهرة بذلك، لضغوط أو ظروف عائلية، نفسية، مهنية، إجتماعية.. أو لأنهن أيضاً يخترن، بكامل حريتهن، عدم التحدث عن ذلك.

أسباب التكتم أو عدم المواجهة، قد لا تكون الضرورة الخوف، بل عدم رغبتهن في إستباحة أجسادهن مرة أخرى، لغوياً وإعلامياً، ورفضهن أن يكنّ موضع نقاش وجدل بين العقليات الذكورية البائسة ذاتها.

ما حدث في "راديو بيروت"، وموقف مدير العمل من الموظفة التي جاهرت بالإعتداء واتهامها بإعطاء الموضوع أكبر من حجمه، يخرج عن كونه موقفاً فردياً، ليعبّر عن ذهنية الكثير من  "المثقفين" في لبنان. ويمكن أن نستشعر ذلك من خلال مواقف العديد منهم في ما يتعلق بالاعتداءات الجنسية التي جاهرت بها الضحايا للإعلام مؤخراً.

في هذا السياق، وفي محاولة لمحاكاة هذه العقلية الذكورية البائسة، دعونا نحدد مقدار المبالغة التي تمارسها النساء في تقييم ما يعبر أجسادهن بالخطأ من جسد الآخر، باعتباره اعتداءً جنسياً. لنتحدث عن الإستباحات التي قد تتعرض لها غالبية النساء: يد وضعت بالخطأ على الساقين، على المؤخرة أو على الأعضاء الحميمة، من قبل زميل، صديق أو عابر سبيل. دعوات أو تعليقات جنسية يومية من السيارات أو الموتسيكلات العابرة، أو من سائق الأجرة مثلاً، وذلك كما يقولون أضعف الإيمان، من دون أن نذكر الإعتداءات الجنسية التي هي أكثر عنفاً، والتي هي أيضاً شائعة لدرجة أنها تبدو من تفاصيل نشأة أي إمرأة في هذا البلد.

فإذا ما تلاقت مجموعة من السيدات، وفُتح باب البوح، صدمت كل منهن بكمّ التجارب المشابهة التي تعرضت لها الأخريات، أو ما هو بعد أشد وطأة مما عانته. فكما قد تتشارك مجموعة من الصديقات، الحديث مثلاً عن قُبلتهن الأولى، قد يتشاركن أيضاً، بالحميمية والإعتيادية ذاتها، الحديث عن أول اعتداء جنسي تعرضن له.

هي انتهاكات شائعة ومتكررة، لدرجة أنها باتت جزءاً من معاشنا اليومي كنساء، واعتدنا التعايش معها، حتى باتت أشبه بضريبة يومية نتحمل وزرها لكي نتابع حياتنا اليومية، وكأن شيئاً لم يكن. فإذا ما أردنا حماية أنفسنا كلياً من هذه الإنتهاكات، ستغدو الحياة مستحيلة، سنغدو تقريباً خارج الحياة. لكن، حتى لو تعاملنا مع هذه الحوادث اليومية وكأن شيئاً لم يكن، فنحن بصدد تراكم كمّي ينهك علاقتنا مع أجسادنا التي تنتهك خصوصيتها بإستمرار، بلا مبرر أو في غير موضع الرغبة. وكأن هذا الجسد الذي نحمل ويحملنا إلى هذا العالم، هو دائماً محل صِدام معه.

ناهيك عن كل الإسقاطات والصور الذي يتشبعها هذا الجسد يومياً، ومنذ نشأته، ومنها الظاهر ومنها المضمر. وبخلاف أنه عرضة لإنتهاك خصوصيته باستمرار، هو أيضاً، وفي أحواله العادية، قالب يُبنى على أساس كل تفصيل ظاهر أو كامن منه، تصنيفات متنوعة، وليس فقط من قبل الجنس الآخر.

ففيما ترتدين ثيابك هذا الصباح أو هذا المساء، عليكِ أن تفكري ملياً بما قد توحي به تنورتك للآخرين: هل يجعلك هذا السنتمتر الزائد تبدين كمُحافظة؟ وهذا السنتمتر الناقص كعاهرة؟ أو هل سيجعلك هذا السنتمتر الناقص أو الزائد، أذكى، أو أكثر أهلية أو مصداقية في ما أريد التعبير عنه؟.. مع الإعتذار من استخدام تسمية "العاهرة"، التي لا يُقصد بها وصم العاملات في مجال الجنس، بل لقدرتها على التعبير عن هواجس العقلية الذكورية. ومن الممكن تكريس دراسة كاملة لهذه الكلمة، وكيفية استخدامها في اللغة العربية الحديثة، والمعنى المقصود لمّا يشار بها للمرأة. فإذا كانت كلمة مومس تعني حرفياً مَن تتقاضى المال مقابل الجنس، فالعاهرة تأتي بمثابة توصيف أخلاقي، كأنها المومس التي لا تتقاضى أجراً، ما يشكل إعجازاً في المنطق قبل اللغة.

من الممكن أن ننظر للموضوع بطرافة، كلعبة تنكرية، لكن لا يمكن إغفال سخافة كل تلك الإسقاطات الكرتونية في محدوديتها التي تتبعنا أينما حللنا. وعلينا صدّها في كل مرة، كما في لعبة فيديو لا تنتهي.

تستحضرني في هذا الصدد، قصيدة للشاعرة الأميركية كيم أدونيزيو، عنوانها "ما الذي تريده النساء؟"، وقد تكون الأكثر تعبيراً عن حالة السأم الكلي التي تحيلنا إليها تلك الإسقاطات، والعقل الذكوري الذي يؤرقه تحديد درجة عهر/حرية هذا الجسد الأنثوي:


أريد فستاناً أحمر
أريده رخيصاً ومهلهلاً،
أريده ضيقاً جدّاً، أريد أن ألبسه                                                         
حتى يمزّقه أحدهم عني.
أريده بلا ظهر ولا كمّين،
بحيث لا يضطر أي كان إلى أن يُخمّن ما تحته
أريد أن أعبر الشارع
قرب (ثريفتي) ومتجر الخردوات
مع كلّ تلك المفاتيح تلمع في الواجهة،
قرب مقهى السيد والسيدة وونغ
اللذين يبيعان الدونتس البائتة،
قرب الأخوين غويرا
اللذين يخرجان الخنازير من الشاحنة إلى الدُلية
حاملين الصغيرة منها على كتفيهما
أريد أن أسير كما لو أني المرأة
الوحيدة على الأرض وأستطيع اختيار من أشاء
أريد ذاك الفستان الأحمر بقوة
أريده لأؤكّد لك أسوأ مخاوفك عنّي،
لأريك كم ضآلة مبالاتي بك
أو بأي شيء سوى ما أريد.
حين أجده سأسحبه من العلاقة
كما لو أني أختار جسداً
يحملني إلى الأرض
عبر صرخات الولادة
وصرخات الحبّ أيضاً،
وسأرتديه كالعظام،
كالجلد،
سيكون الفستان اللعين
الذي سيدفنونني فيه

(كيم أدونيزيو "ما الذي تريده النساء"- ترجمة: سامر أبوهواش).

ولأننا أيضاً جزء من هذه المنظومة الذكورية التي نشأنا فيها ومعها، فرفضها أيضاً لا يحدث بهذه السهولة والتلقائية، بل هو نزاع مستمر بين ما يدركه الجسد بفطرته، وما يُلقَّن ويعاد تلقينه يومياً.

أكثر من الإنهاك، هو إحساس بالغربة، لما، مرة تلو الأخرى، تخوننا الأوساط التي نشأنا فيها أو لجأنا إليها وظنناها ملاذاً آمناً نتحرك فيها بحرية، بلا خوف من هذه الإسقاطات. ومع اختلاف الظروف والبيئة، فإن مطلب النساء الأساسي اليوم، هو ألا يكنّ مضطرات إلى دفع ضريبة الحرية التي استحصلن عليها أو التي ما زلن يسعين إليها، سواء كانت ضريبة جسدية، نفسية أو حتى اقتصادية: من التحرش، للإغتصاب، للتعنيف الذي يصل لمصادرة حق الحياة، لمصادرة حق الحضانة، للتمييز في العمل والأجر غير العادل..

ولمن يرى في الموضوع مبالغة، فيا حبذا لو كان بالإمكان توفير علينا عناء كل تلك المعارك التي تستهلك طاقتنا في الوجود، كي ننصرف إلى ما هو أجدى من محاربة هذه البلاهة  الذكورية، والتي، رغم بلاهتها، تصل إلى حد القتل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024