روسيا تحمي مسيحيي المشرق وتبني "آيا صوفيا" في السقيلبية!

وليد بركسية

الإثنين 2020/07/27
لا تقصد روسيا من رعايتها لبناء كنيسة باسم "أيا صوفيا" في مدينة السقيلبية بمحافظة حماة السورية، الترويج لنفسها كقوة تحافظ على الاستقرار الديني والطائفي في الشرق الأوسط، في مقابل الدعاية التركية الإسلامية، فقط، بل تروج للنظام السوري وميلشياته كقوى بطولية تعمل من أجل نشر الخير والسلام في المنطقة، بعكس واقعها كقوى ظلامية مسؤولة عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية طوال عشر سنوات.

وتداولت صفحات ووسائل إعلام موالية للنظام السوري، صوراً لوضع حجر الأساس لـ"كنيسة آيا صوفيا" في مدينة السقيلبية غرب حماة وسط البلاد، بدعم من مجلس الدوما الروسي ومشاركة ميليشيا "الدفاع الوطني" المحلية والكنيسة الروسية، ردّاً على تحويل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، متحف آيا صوفيا إلى مسجد مؤخراً، ما يحيل تلقائياً إلى قراءة طائفية للحرب في سوريا، بعدما انحرفت ثورتها السلمية المطالبة بالديموقراطية عن مسارها، نحو حرب أهلية تغذيها ثيمات طائفية ودينية بحتة لا تقتصر على الأطراف المحلية فيها، بل تمتد إلى الدول الأجنبية الفاعلة في الشأن السوري، التي تعزو مجتمعةً وجودها العسكري في هذه الدولة الهامشية، إلى أسباب حضارية ودينية تعطيها مزيداً من النفوذ بين المجموعات الإثنية والطائفية المستهدفة بهذا الخطاب السام.



وفيما كانت الخطوة التركية جزءاً متسقاً من سياسات تركية مختلفة تجمعها أفكار نظرية "صراع الحضارات" التي صاغها المفكر الأميركي الراحل صمويل هنتنغتون العام 1996 وتفيد بأن "الاقتصاد يتبع السياسة والسياسة تتبع الثقافة"، فإن الخطوة السورية ببناء الكنيسة الجديدة، تتسق مع النظرية بشكل مدهش، لأن من يرعى الخطوة هم "الحلفاء الروس" الذين كرروا مراراً عبارات تفيد بأنهم "يحمون الوجود المسيحي في الشرق"، كمبرر ثقافي للانتشار العسكري في الشرق الأوسط.

ولا يوجد مكان أفضل من سوريا لإظهار هذه النزعات الثقافية/الدينية، فمع التداعي التدريجي لزعامة الحضارة الغربية مقابل ظهور دول إقليمية كبرى تتنازع على سيادة العالم، باتت الصراعات تحدث عند الدول الحدودية الفاصلة للخطوط الحضارية، مثل سوريا أو أوكرانيا، كما أن التحالفات بين الدول باتت تميل أكثر للنشوء على روابط ثقافية دينية تتحكم بالسياسة والاقتصاد، فيما يغذي الإعلام كل ما سبق لكونه الرابط المشترك بين العناصر الثلاثة.


والحال أن الحديث عن حماية موسكو للمسيحيين في المشرق ليس جديداً، ففي العام 2017، كشف مراسل صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في موسكو أندرو روث عبر حسابه في "تويتر"، تعليق صور للرئيس السوري بشار الأسد في مجلس الدوما الروسي، لكن تلك الصور ذيلت بعبارة "بوتين هو حامي المسيحيين الوحيد في العالم"، وهي عبارة قالها الأسد شخصياً في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2015 في لقاء صحافي مع مجلة "فالير أكتويل" الفرنسية، في معرض وصفه للثورة السورية بأنها إرهابية وحديثه عن تركيا بوصفها مصدرة للإرهاب الداعشي إلى أوروبا، وذلك بعد شهر واحد من بداية التدخل العسكري الروسي في البلاد، والذي أدى لأن يميل ميزان القوى في الحرب السورية لصالح النظام وحلفائه.

وبحسب المعلومات المتداولة، التقى وفد عسكري من قاعدة "حميميم" الروسية بمسؤولين في ميليشيات "الدفاع الوطني" من بينهم نابل العبدالله وسيمون الوكيل في مدينة السقيلبية، وقالت صفحة ميليشيات "الدفاع الوطني" هناك، أن الوفد زار عدداً من المدارس المسيحية والكنائس  والتقى برموز دينية ضمن جولة نظمها العبدالله للوفد في السقيلبية. علماً ان زيارات الضباط ورجال الدين الروس تكررت للمدينة منذ مطلع العام الحالي، ما أثار الكثير من التكهنات والتحليلات في الصحافة السورية المعارضة للنظام والصحافة الروسية على حد سواء، حول اهتزاز علاقات موسكو بالنظام السوري وتفضيلها دعم الميلشيات المحلية.

واللافت هنا، أن المشروع ككل يخلو من التمثيل السوري الرسمي، في وقت بات فيه قادة الميليشيات وأمراء الحرب أبرز المستفيدين من الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في البلاد بسيطرتهم على نحو 20 مقعداً، تمت بها عسكرة البرلمان بشكل واضح بالتوازي مع عسكرة المجتمع السوري منذ العام 2011، مع الإشارة إلى أن المدن والقرة المسيحية في حماة، والقريبة نسبياً من محافظة إدلب، شهدت دائماً تواجداً روسياً لحماية المسيحيين، وانتشرت طوال السنوات الماضية صور ومقاطع فيديو لتوزيع مساعدات إنسانية روسية هناك، بموازاة خلافات بين المنظمات الإنسانية الخاصة بأسماء الأسد، مع المنظمات الإنسانية الخاصة بناشطين مسيحيين مثل تلك التابعة للإعلامية ماغي خزام التي وجهت اتهامات للنظام حينها بالتبعية لإيران الشيعية بدلاً من حماية الأقليات مثلما ينبغي.



ومن المثير للسخرية هنا، أن موضوع حماية المسيحيين كان المدخل لتبرير التعاون الاستراتيجي بين موسكو وطهران، على الأقل، فيما يجري الحديث باستمرار عن صراع روسي إيراني وبالتحديد نظرة كل من حليفي الأسد الرئيسيين لمستقبل البلاد. فعلى سبيل المثال روجت البروباغندا الروسية للجنرال الإيراني قاسم سليماني على أنه حليف يحمي المسيحيين في الشرق الأوسط. وبعد مقتله في غارة جوية أميركية قرب مطار بغداد مطلع العام الجاري، بثت الإعلامية المقربة من الكرملين فانيسا بايلي تقريراً أفاد بأن "مشروع المقاومة الذي حمله قاسم سليماني يشابه مشروع المقاومة الذي تبناه المسيح".

وإن كانت إيران تبرر نشاطها العسكري في سوريا بحماية المزارات الشيعية، فإن الدعاية الروسية تخرج التدخلات الإيرانية من سياق الصراع السني الشيعي الضيق، نحو حيز أوسع يرتكز على فكرة الهجوم على الغرب وتبرير الأنشطة الروسية التي تتوسع في المنطقة، أكثر من كونها دفاعاً عن المشروع الإيراني نفسه في الشرق الأوسط، خصوصاً أن موسكو تسعى لطرح نفسها كقوة بديلة للولايات المتحدة، وكوسيط يمتلك القدرة على الحوار مع كافة القوى المتخاصمة في الشرق الأوسط. ومن ناحية إيران، يدرك نظام الملالي بلا شك عدم امتلاكه عمقاً ثقافياً كافياً في سوريا، مثلما يمتلك في العراق على سبيل المثال، لأن سوريا دولة ذات غالبية سنية ما يجعل النفوذ الإيراني محدوداً من الناحية الدينية، حتى لو كانت القيادة العلوية للنظام مرتبطة بشكل وثيق مع القيادة الدينية في طهران منذ العام 1979.

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الديناميات الطائفية تهدد استقرار البلاد على المدى الطويل، للعبها على وتر الخوف من الآخر في وقت تبحث فيه الدول والأفراد عن معنى جديد للانتماء والمواطنة. يجب القول أن الحديث عن هذه الاستراتيجيات لا يتم بالخفاء بل يجري على العلن من دون حرج، حتى ضم وسائل الإعلام الرسمية. فعلى سبيل المثال أكد نائب مجلس الدوما الروسي، فيتالي ميلونوف، في 17 تموز/يوليو الجاري، في تصريحات نقلتها وكالة "ريا نوفوستي" الروسية أن "المسيحيين الأرثوذكس في روسيا يمكنهم مساعدة سوريا في بناء نسخة طبق الأصل من كاتدرائية القديسة صوفيا" معتبراً أن بناء الكنيسة في سوريا "خطوة جيدة، لأن سوريا، على عكس تركيا، دولة تُظهر بوضوح إمكانية الحوار السلمي وتأثيره الإيجابي"، مضيفاً أنه من "المستحيل تكرار مصير آيا صوفيا التركي، لأن الكنائس المسيحية القديمة لم تمس، والرئيس بشار الأسد لن ينقل في حياته مجلساً من طائفة إلى أخرى"، حسب تعبيره.

وفيما يعتبر ذلك ترويجاً لنظام الأسد بوصفه قوة علمانية تحمي الأقليات ضد الإرهاب الإسلامي، بكل ما يحمله ذلك من لهجة تبريرية للانحياز إلى جانب النظام الشمولي، فإنه يشكل تسجيلاً تثبت فيه روسيا مكانتها كحامية لمسيحيي المشرق أمام العالم، في تحدٍ للقوى الغربية التقليدية التي تحتضن عادة هذا النوع من الخطاب، في صراع متجدد حول النفوذ بين أقطاب الحضارة المسيحية يعود إلى قرون منذ انقسام الكنيسة العام 1054.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024