أطفال "نيزيب" بين الأجندتين التركية والإيرانية

جو حمورة

الأحد 2016/05/15
بعد الحملات الأخيرة التي طاولت وسائل إعلامية معارضة، ضاقت مساحة الحرية في تركيا. فبات على متابع شؤون تلك البلاد وشجونها التوجه إلى مصادر ثانوية وقليلة التأثير للحصول على المعلومة، وهي بأغلبها صحف ومحطات إعلامية قليلة المبيع والمتابعة. كما بات خطر الوقوع في الرؤية الأحادية لمجريات الأحداث في تركيا مرتفعاً، وذلك بسبب تحوّل أغلبية وسائل الإعلام المحلية الشهيرة إلى مروّجة لنظرة الحكومة والحزب الحاكم وناطقة باسمه حصراً.

ومن جهة ثانية، فإن الوسائل الإعلامية الأجنبية تبدي إهتماماً دائماً وتركيزاً، مبالغاً فيه أحياناً، لمعرفة ماذا يجري داخل تركيا، خصوصاً الإعلام الأوروبي المعني بشؤون اللاجئين السوريين ومسألة إنضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، وذلك إلى جانب الإعلام الإيراني الذي يهمه التقليل من تأثير تركيا في الشرق الأوسط وتشويه صورتها، كما وإظهارها كطامع في أرض غيرها والساعية لمصادرة القرارالسياسي للعالم الإسلامي.

حدث محلي تمثّل باعتداء جنسي من قبل عامل تنظيفات تركي على 30 طفلاً سورياً في مخيّم "نيزيب" للاجئين السوريين قرب الحدود مع سوريا، لاقى مؤخراً رواجاً ملحوظاً في وسائل إعلام إيرانية على الرغم من قلة تداوله في الإعلام التركي. وكانت صحيفة "بيرغون" اليسارية المغمورة قد نشرت الخبر أولاً على صفحتها الأولى في 11 أيار/مايو الحالي، ثم تناقله بعض الوسائل الإعلامية التركية المعارِضة، في حين عمدت الصحف والمحطات والمواقع الإلكترونية المقربة من إيران إلى البحث في الموضوع وبثه مراراً. أما الصحف الموالية للحكومة التركية فلم تبد اهتماماً بالخبر، بل اكتفى بعضها بالقول إنّ الأجهزة الرسمية ستقوم بعملها لمتابعة القضية، فيما لم تذكر وسائل إعلامية أخرى الموضوع لا من قريب أو بعيد، في قت قام أحد المدعين العامين الأتراك بإحالة المتهم إلى المحكمة بتهمة الاعتداء الجنسي على أطفال بين 8 و12 من العمر، كما كان الرجل قد إتهم بجذب ضحاياه إلى دورات المياه حيث اعتدى عليهم مقابل إعطائهم مبالغ مالية بسيطة، على ما ذكرت وكالة "دوغان" التركية.

وسائل الإعلام الإيرانية سلطت الضوء على الخبر وتداولته بكثافة عبر القنوات التلفزيونية والمواقع الالكترونية، والتي كان محطة "العالم" وموقعها الإلكتروني باللغات العربية والإنكليزية والفارسية، وكذلك محطة "Press Tv" وموقعها الإلكتروني باللغات الإنكليزية والفرنسية والفارسية، إضافة إلى مواقع إلكترونية أخرى تدور معظمها في فلك إيران.

كما أفردت المقالات المنشورة في وسائل إعلام إيرانية مساحة واسعة لانتقادات لإدارة تركيا لملف اللاجئين السوريين بشكل عام، كذلك إنتقادات أخرى حول تباهي السلطات التركية بأن مخيم "نيزيب" للاجئين السوريين قد اعتُبر يوماً نموذجياً من حيث إدارته والخدمات المقدمة فيه. بالإضافة إلى انتقاد زيارة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لهذا المخيم بالذات سابقاً، والتلميح إلى أن تركيا وألمانيا يرميان اللاجئين السوريين على بعضهم البعض. وهنا تبدو المفارقة الإيرانية، إذ تنتهج إيران بجنودها وحرسها الثوري وميليشياتها اللبنانية نهجاً عسكرياً وتدخلاً واضحاً في الحرب السورية أدى إلى تهجير الآلاف من السوريين، إلى مناطق أخرى من الداخل السوري أو إلى خارج سوريا، وتتناول هنا حادثة في مخيم للاجئين في تركيا، وكأن الإعلام معني بحقوق الإنسان.. والإنسان السوري تحديداً. وهنا تتبلور الأجندة.. تماماً كما تتبلور أجندة الإعلام التركي الموالي للسلطة.

وتبدي إيران خلال الفترة الأخيرة اهتماماً إعلامياً غير اعتيادي بشؤونٍ تتخطى وطنها والعالم العربي، حيث باتت تهتم وتتابع أخبار دوليو وشؤون عالمية من باب "الحرب الإعلامية" عليهم. فنادراً ما يتم تناقل خبر إيجابي من تركيا والسعودية مثلاً، في حين لا تنفك عن نشر الأخبار الإيجابية الآتية من العراق وسوريا على الرغم من كل الدمار والموت والسوداوية اللاحقة بالبلدين.

المتابع  للقنوات التلفزيونية الإيرانية ومواقعها الإلكترونية سيلحظ أيضاً انتهاجها سياسة تكثيف المواد المنشورة في اللغات الأخرى. في وقت ما عاد التركيز على العربية والإنكليزية كافياً لآلة الدعاية الإيرانية، بل دخلت بعض المحطات والمواقع الإلكترونية الأخرى حديثاً في طور اعتماد لغات إضافية لتعزيز حضورها وتأثيرها، أبرزها اللغة الفرنسية.

من ناحية أخرى، بات تقيد الحريات الإعلامية بمثابة خطر على الدولة التركية، يتخطى بتأثيره إشكالية الديموقراطية والمحاسبة، والرد على البيانات الانتقادية الدائمة الصادرة من المنظمات الدولية حول موضوع الحريات العامة، فيما غياب الوسائل الإعلامية المعارِضة وبقاء الإهتمام الإيراني والأوروبي في الشؤون التركية سيؤدي، في نهاية المطاف، إلى تحوّل الإعلام الأجنبي إلى مصدر للمعلومة، وهو إعلام لا يكترث كثيراً لمصلحة تركيا الوطن والدولة. في حين أن وجود إعلام معارض قوي وفاعل ومؤثر، كما كانت عليه الحال قبل سنوات، يبقى أضمن للحكم التركي، حيث أن معارضة هذا الإعلام التي يُرجّح أنها ستكون قاسية أحياناً، لا يمكنها أن تتخطى، بأي شكل من الأشكال، المصالح والسياسات الوطنية العليا للدولة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024