فلسطينيو الداخل في شتاتهم.. والعتاب يغزو السوشال ميديا!

أدهم مناصرة

الثلاثاء 2018/05/15
"شو بالنسبة لأهل الضفة.. معنا؟ ولا صليب أحمر؟".. تعليقٌ نقديٌ كتبه صحافي غزّيٌ مقيم في الضفة الغربية، في صفحته الفايسبوكية، معلّقاً على منشور "قلبي في غزة"، لتتبعه دعوة من متظاهرة على حدود غزة لأهل الضفة تحثهم على الإنتفاض، متساءلة: "ليش يا أهل الضفة ما تعملوا انتفاضة شاملة معنا؟!..اتحركوا!". 
لعل ما سبق يندرج ضمن مجموعة من المنشورات والتغريدات والتصريحات التي باتت منتشرة في الآونة الأخيرة بوضوح في مواقع التواصل الإجتماعي. لكن ما قيل في هذا الإتجاه، وفي هذا الوقت تحديداً، يستحق التوقف عنده، خصوصاً أن الفلسطينيين يحيون الذكرى السبعين لنكبتهم؛ انطلاقاً مما آل إليه حالهم التشرذمي وانقسامهم الذي لم يعد سياسياً بل تحول إلى مناطقي لأسباب ذاتية من الناحية الشكلية، إلا أنه صنيعةُ الإحتلال- في العمق- منذ سبعة عقود.

وواقعياً، يختزل التعليق الفايسبوكي من ذلك الشاب، فضلاً عن الدعوة التلفزيونية من المتظاهرة الغزّية، مدى تبعثر الديموغرافيا الفلسطينية في مناطق جغرافية مشتتة ومنفصلة عن بعضها البعض، لدرجة الشعور بأننا نتحدث عن كيانات فلسطينية منعزلة ومستقلة بذاتها، على غرار الدويلات اليونانية التي لخصتها مَلحَمة "الإلياذة والأدويسا" قبل آلاف السنين.

التعليق يستحضر كل معاني ومصطلحات وتعبيرات الإنقسامات المناطقية الفلسطينية، التي خلقها الاحتلال وترددت على مسامع الناس منذ طفولتهم، من قبيل (لاجئ، غزاوي، ضفاوي، مقدسي، عرب إسرائيل، شمال، جنوب). ثم جاء اتفاق اوسلو العام 1993، وبعده الإنقسام السياسي الذي تسببت به حركتا "فتح" و"حماس" خلال السنوات العشرة الأخيرة، ليزيدا الطين بلّة ويعززا الإنقسام أكثر فأكثر، حتى دخل على الخط مصطلح "الإنفصال" بين الضفة وغزة، والذي يحذر منه الساسة في الفترة الأخيرة باعتباره مخططاً أميركياً- إسرائيلياً مدعوماً من بعض دول الإقليم.

ويقول المتخصص في الشأن الإسرائيلي عادل شديد لـ"المدن"، أنه كتب بحثاً أكاديمياً عن ذلك قبل عشر سنوات عندما كان يدرس في الجامعة العبرية بالقدس، موضحاً أن موضوع "التقسيمات" اشتغلت عليه كل من تل أبيب وواشنطن، وقد خُصص لذلك ملايين الدولارات؛ بغية تجسيد التقسيم الجغرافي والسكاني الفلسطيني من أجل تشتيت الرواية الوطنية الفلسطينية والغاء الذاكرة الجمعية وتحويل الشعب الفلسطيني الى حالة من الجماعات المتناثرة وغير المترابطة وبأولويات مختلفة.
ويعني هذا ان الإحتلال حرص على أن تكون اولوية الفلسطيني في الناصرة، على سبيل المثال لا الحصر، مختلفة عن تلك الخاصة باللاجئ أو الضفاوي أو الغزاوي، ما يؤدي إلى شرذمة الهمّ الفلسطيني، أملاً في تفكيك عناصر ومكونات القضية المُجزّأة من الذاكرة التاريخية والقيادة والأهداف والهموم والبرنامج الوطني.

ولمّا تمكنت إسرائيل من احتلال أراضي العام 1967، أيقنت بعد أشهر قليلة، أن أحد الآثار السلبية للسيطرة على ما تبقى، لا ينسجم مع الرؤية الإستراتيجية بعيدة المدى للحركة الصهيونية، فهذا الإحتلال أعاد توحيد الجغرافيا والسكان الفلسطينيين، وهو الأمر الذي لا يريده.

واستغلت الدولة العبرية اتفاق أوسلو، الذي أبرمته مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل 25 عاماً، لتعالج - من وجهة نظر الحركة الصهيونية - "خطأ 1967"، فساهمت في تفكيك الشعب الفلسطيني لإحكام السيطرة عليه، بدءاً من اخراج فلسطينيي 48 كجغرافيا وكسكان من معادلة الحل، مروراً بتقسيم الضفة الغربية الى 8 تقسيمات تحول دون أي تواصل بين المحافظات والمناطق الفلسطينية، ثم فصل تدريجي لقطاع غزة عن الضفة.

وكنتيجة تلقائية، نجحت اسرائيل في تحويل الفلسطينيين الى مجتمعات ومناطق متفرقة ومتعددة، كل منها له وضعه وخصوصيته وأولويته؛ كي تجعل كل منطقة تعاني همّاً خاصاً بها يختلف عن ذلك التي تعانيه منطقة فلسطينية أخرى. بل قامت بتمييز الفلسطينيين عن بعضهم البعض من حيث إعطائهم وثائق تتيح حرية الحركة لأبناء هذه المنطقة أكثر من تلك، وهكذا.. لنلحظ أن علاقة طبقية تولدت في ما بينهم.

وتمكنت إسرائيل من تحقيق ذلك بطريقة عملية وإعلامية مُحكمة. ففي خطابها ومصطلحاتها ووسائل اعلامها، تفصل وتميز بين الضفة وغزة، كما تُسمّي شمال الضفة "السامرة" وجنوبها "يهودا".

أما في القدس، فقد منح الإحتلال المواطن المقدسي هوية خاصة به، تتيح له حرية الحركة أكثر من سكان مدن الضفة الغربية الأخرى، الذين يضطرون للحصول على تصريح إسرائيلي من أجل دخول المدينة المقدسة أو مناطق الخط الأخضر.

وتقع بعض وسائل الإعلام الفلسطينية في خطأ فادح عندما يردد عبارات التقسيمات الإسرائيلية ويقع في فخها، فيقول في خبر ما "الضفة الغربية والقدس"، إذ أنه يفصل دون دراية وعلى نحو خطير بين القدس والضفة، رغم أن الأولى هي جزء من الثانية.

هذا المشهد الفلسطيني المتبعثر والمتباين يتجسد في مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً، إذ يظهر تفاعلاً لسكان الضفة مع ما يجري في غزة، كما لو أن الحال يحدث في دولة شقيقة. ثم نرى تعليقات من غزيين تُعاتب أهل الضفة.

ويخلص مراقبون إلى القول "نحن الفلسطينيين أصبحنا فعلاً مجتمعات متفرقة.. فلا نتوحد في الهم والدافع وإن كان السبب وراءهما واحد وهو الاحتلال".

بَيدَ أن الواضح تماماً من خلال الرصد الاعلامي لتصريحات ومواقف القادة الإسرائيليين، فإن الدولة العبرية تخشى أن تساهم مسيرات العودة على حدود غزة في إعادة تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية بشكل يوحد الفلسطينيين تحت برنامج وقيادة موحدين؛ الأمر الذي سيُفشل مخططاً كرست له أمنها وسياستها ومالها وإعلامها ومصطلحاتها بغية تقسيمهم بشكل يؤدي إلى تفكيك قضايا الحل النهائي وفرض التسوية المُفصلة على المقاس الإسرائيلي والأميركي، تمهيداً لفرضها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024