حسن مراد
ففي 15 من آب/أغسطس من كل عام، تحيي فرنسا ذكرى عملية دراغون، أو ما يعرف بإنزال قوات الحلفاء لتحرير السواحل الجنوبية الشرقية لفرنسا. هذه العملية، غير المعروفة لدى العامة، جرت بعد نحو عشرة اسابيع على إنزال النورماندي وكان من بين أهدافها تخفيف الضغط عن الجبهة الشمالية ما ساعد الحلفاء على التقدم باتجاه باريس. وتعتبر هذه المناسبة محطة سنوية لاستذكار الجنود الذين خرجوا من مستعمرات فرنسا الأفريقية للمشاركة في هذه العملية تحت لواء الجيش الفرنسي الأول.
لكن المناسبة اكتسبت هذا العام مذاقاً مختلفاً عقب الكلمة التي ألقاها ماكرون، وتمنى فيها على رؤساء البلديات الفرنسية تخليد ذكرى هؤلاء الرجال عبر تسمية شوارع وساحات عامة بأسمائهم، مذكراً أن الجزء الأكبر من جنود الجيش الفرنسي الأول يعود أصلهم لدول شمال أفريقيا، المغرب، تونس، الجزائر، وجنوب الصحراء الكبرى، السنغال، ساحل العاج، غينيا.
Emmanuel Macron lance un "appel aux maires de France" pour renommer des rues en hommage aux soldats africains de l'armée française qui ont participé à la Libération pic.twitter.com/0NgdFYuzt2
— franceinfo (@franceinfo) August 15, 2019
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بكلام الرئيس الفرنسي، فتباينت ردود المغردين: المؤيدون لهذه المبادرة رأوا فيها خطوة بالاتجاه الصحيح لإنصاف هؤلاء الجنود المجهولين. في المقابل تعددت مواقف المناوئين بين من اتهم الحكومة بممارسة الاستبدال الكبير، ومن رأى فيها تقليلاً من شأن الجنود الفرنسيين أو تضخيماً لدور الجنود الأفارقة. ووقفت فئة أخرى على الحياد فرحبت من جهة بالمبادرة معتبرةً في الوقت عينه أنها ليست أولوية الأولويات.
هذا التباين الحاد الذي تفجر في مواقع التواصل الاجتماعي عكس مزاج شريحة من الرأي العام الفرنسي، شريحة غير متصالحة مع ماضيها. فالشوارع الفرنسية تعج بأسماء جنرالات أميركيين مثل جورج باتون (Georges Patton) وبريطانيين مثل بيرنارد مونتغمري (Bernard Montgomery)، وبالتالي يجب التساؤل عن سبب رد الفعل الحاد هذا ضد الأفارقة؟ لكن من يريد التعمق في أبعاد هذه المبادرة سينتهي به المطاف حكماً إلى إعادة النظر بالعلاقة التي حكمت فرنسا بمستعمراتها السابقة.
بخلاف الأميركيين والبريطانيين، خاض جنود المستعمرات الحرب العالمية الثانية تحت الراية الفرنسية مشكلين السواد الأعظم من الجيش الفرنسي الاول، فلم تكن لهم قيادة عسكرية مستقلة. ومن الطبيعي إذاً طرح فكرة انخراطهم في حرب "لا ناقة لهم فيها ولا جمل"، وقد يذهب آخرون أبعد من ذلك للتساؤل عما إذا كان الجنود مغلوباً على أمرهم.
200 % approprié. MERCi à notre Pdt @EmmanuelMacron de rendre justice à ces visages oubliés, jeunes hommes fauchés dans leurs 20 ans pour la Patrie, la Liberté.
— ⭐️ ⭐️ miss z😎zz 🇫🇷 🇪🇺 (@ZsaZ007) August 15, 2019
Ils n’ont pas tremblé.
Nous leur devons tant, et désormais de pavoiser rues, places de cette France chérie.@Stbslam
وبالتالي، أن تدين فرنسا بتحريرها لبلدان استعمرتها سابقاً، من شأنه إعادة شيء من التوازن للعلاقة بين الطرفين، خصوصاً أن عدداً من السياسيين والمثقفين الفرنسيين مازال يرفض الاعتراف بما خلفه الاستعمار الفرنسي من مآسٍ. فقبل نحو عامين وفي معرض نفيه لتهمة الاستعمار عن بلاده، اعتبر رئيس الوزراء السابق فرنسوا فيون أن "فرنسا ليست مذنبة حين قررت أن تتقاسم ثقافتها مع الشعوب الأفريقية" منتقداً المناهج المدرسية التي تدفع الطلاب للخجل من تاريخ بلادهم. بالمقابل، يجنح ماكرون نحو الحقيقة التاريخية أكثر من الرواية الرسمية: فخلال حملته الرئاسية وصف الاستعمار بـ"الجريمة ضد الإنسانية".
يدرك خصوم الرئيس الفرنسي أن تكريس مثل هذه الحقائق التاريخية من شأنه إضعاف حجتهم حول ايجابيات الاستعمار، ومهاجمتهم له تحمل في طياتها رفضاً مبطناً لإعادة النظر بتاريخ بلادهم، بما له وبما عليه.
على نحو مواز، من الطبيعي النظر إلى كلام ماكرون من زاوية اانتخابية. فالبلاد تقف على مسافة سبعة أشهر من الانتخابات البلدية وهي المرة الأولى التي سيخوض فيها حزب "الجمهورية إلى الأمام"، الموالي لماكرون، هذا السباق بغية ترجمة سياسات الحكومة على المستوى المحلي. وعليه، من المبرر الاعتقاد أن توقيت الدعوة مدروس فالمجالس البلدية هي الجهة المخولة تسمية الشوارع، وهو أمرٌ تم التعبير عنه في تغريدات رأت فيها مغازلة انتخابية وسياسية لحزب "الجمهورية إلى الأمام" في مسعى لاجتذاب أصوات المهاجرين المجنسين.
Il y a quelque chose d’indécent dans l’hommage rendu par #Macron au #debarquementdeprovence dont il entend trier les acteurs en fonction de leur couleur de peau.
— Jean MESSIHA (@JeanMessiha) August 16, 2019
Le soldat français blanc, majoritaire, passe aux oubliettes ; le soldat de couleur est déclaré unique héros et déifié.
بشكل عام، لا تحبذ المجالس البلدية تغيير تسمية أي شارع من دون سبب وجيه لما يسببه ذلك من بلبلة إدارية لا سيما للسكان. والمقصود إذاً هو الأخذ بعين الاعتبار هذا العامل في أي ورشة مستقبلية للتنظيم المدني.
شخصياً ربما ما كنت سأسمع بالجنرال باتون لولا اسم الحي الذي قطنته، فعندما يختار مجلس بلدي فرنسي تخليد ذكرى ما (شخصية، مناسبة تاريخية) أو حتى حين يمتنع عن فعل ذلك، يقوم بإبراز الهوية السياسية والتاريخية للمنطقة: فالثورة الفرنسية حولت ساحة لويس الخامس عشر في باريس إلى ساحة الثورة قبل اتخاذها اليوم اسم ساحة الكونكورد، وشارع النبلاء في مارسيليا تحول إلى شارع المساواة. وفي بعض البلديات التي ترأسها اليمين المتطرف منتصف التسعينيات غُيّبت عن شوارعها أسماء شخصيات يسارية، فجادة فرنسوا ميتران في فيترول جنوبي البلاد باتت جادة مرسيليا.
واليوم، لا تكتفي المجالس البلدية بتسمية شوارع وساحات باسم شارل ديغول بل تحرص أن يرتفع هذا الاسم دوماً في أكبر الشوارع وأهمها للدلالة على المكانة التي يحتلها هذا الرجل في تاريخ فرنسا المعاصر. مقابل الانتشار الواسع لاسم ديغول، نسجل غياباً تاماً لهتلر عن أسماء الشوارع والساحات العامة الفرنسية وذلك منذ سقوط سلطة فيشي.
يدرك المغردون أن الدعوة التي وجهها ماكرون لرؤساء البلديات تحمل رمزية تتعدى استحداث عنوانين بريدية، فاختيار أسماء للشوارع هو نوع من المساهمة في كتابة تاريخ فرنسا. من هنا تتضح خلفية الصخب الذي ساد مواقع التواصل الاجتماعي فهو اصطدام بين توجهين: من يريد كتابة التاريخ كما هو وآخر يريد اخضاعه لروايته.
Alors , vous voyez bien que le #GrandRemplacement est réel, puisqu'il est même organisé par l'état.
— Regain 🇫🇷 ^ (@LaSouche84) August 16, 2019