تييري مارياني "المغفل الفرنسي" المفيد.. لبشار الاسد

حسن مراد

الأحد 2019/09/01

 


للمرة السادسة منذ العام 2015، حطّ تييري مارياني في دمشق يوم الثلاثاء الماضي. مارياني هو عضو البرلمان الأوروبي عن حزب التجمع الوطني الفرنسي (يمين متطرف) وسبق له أن ترأس خمسة وفود إلى سوريا إبان عضويته في البرلمان الفرنسي.


وكان مارياني قد أعلن عن الزيارة الأحد الماضي في تغريدة له على تويتر، حيث اختار أن تتصدر هذه التغريدة حسابه الشخصي الى حين عودته إلى فرنسا في الأول من أيلول. وفقاً لتغريدته، فإن الغرض من الزيارة هو لقاء مسؤولين (سياسيين واقتصاديين وثقافيين) ورجال دين سوريين في هذا البلد الذي "يجابه بنجاح" الإرهاب منذ ثماني سنوات على حد وصفه. بالتوازي، كشف عن سعيه لتشكيل جمعية صداقة فرنسية - سورية لإعادة العلاقات بين البلدين على كافة المستويات. 


منذ وصوله إلى دمشق واظب مارياني على نشر صور للقاءاته وجولاته عبر حسابه الشخصي في "تويتر": من بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك جوزيف عبسي  والمفتي أحمد حسون مروراً بمعاون وزير الخارجية أيمن سوسان وجمعية مسيحيو الشرق (SOS Chrétiens d'Orient) كما نشر صورا وفيديوهات لأماكن سياحية قصدها في دمشق وصيدنايا. واختتم مارياني والوفد المرافق له جولاته بلقاء مع بشار الأسد.


وأرفق كل صورة وفيديو بتغريدة ذات مضمون سياسي: فنقل عن لسان الأسد استعداده للتحاور مجدداً مع فرنسا نظراً للتاريخ والأهداف المشتركة بين البلدين لا سيما محارية الارهاب، وهذا ما عنونته الصحف ووكالات الانباء على أثر اللقاء. وأضاف الرئيس السوري أن بلاده تسعى للحفاظ على هويتها بخلاف أوروبا التي تضحي بثقافتها لترتدي قيماً غريبة عنها.


من جهته، أبدى المطران عبسي أسفه لتراجع الثقافة الفرنكوفونية في سوريا نتيجة الموقف السياسي الفرنسي. أما المفتي حسون فاعتبر أمام الوفد الفرنسي أن على المسلمين المقيمين في فرنسا احترام القوانين الفرنسية دون غيرها.


وفي صيدنايا التقط مارياني لنفسه صورة حاملا زجاجة نبيذ فرنسية قائلاً أنها وصلت إلى سوريا رغم الحصار والعقوبات، صورة تغازل مشاعر الاسلاموفوبيين (حالها حال تصريحات الأسد وحسون) كما أصحاب المصالح الاقتصادية.


وإذا ألقينا نظرة على وسائل التواصل الاجتماعي حيال ردود الفعل على الزيارة، لا سيما اللقاء مع الأسد، نلاحظ انقساما حادا بحيث لم يطغَ أي موقف على الآخر: لا المؤيدين لمارياني ولا المعارضين له.    


إستناداً إلى جدول الزيارة ومضمون التغريدات، يمكن الاستنتاج أن الوفد يعيد التذكير بمصالح بلاده في سوريا وكأن فرنسا تفرط بها خاصة حين ستدق ساعة "إعادة الاعمار"، إلى جانب الايحاء بتواصله مع معتدلين يشكلون رادفاً سياسيا وثقافيا لفرنسا. رسائل تصب جميعها في الاتجاه نفسه: استمالة الرأي العام الفرنسي لصالح تطبيع العلاقات مع نظام الأسد. 


وإدراكاً منها لرمزية الزيارة، تلهفت الوسائل الإعلامية الفرنسية لاستضافة مارياني، فلم تشفِ التغريدات غليلها ولم تصبر الى حين عودته إلى فرنسا بل فتحت له الهواء منذ اليوم الثاني لوصوله إلى دمشق.     


الواقع أن تييري مارياني هو البرلماني الفرنسي الاكثر نشاطاً على خط باريس – دمشق، لكن الصحافة الفرنسية لم تتعاطَ يوماً مع زياراته كحدث عادي أو روتيني. ففي كل مرة قصد فيها برلمانيون فرنسيون مناطق خاضعة لسيطرة النظام، تعيد السلطة الرابعة التذكير بالموقف الرسمي الفرنسي المناوئ لنظام الأسد وللعلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ العام 2011. بالتالي، هذا التواصل يمكن تصنيفه كضرب من ضروب "الدبلوماسية الموازية".  


شخصية تييري مارياني جعلت منه إحدى الشخصيات السياسية المحببة إلى قلب الصحافة والإعلام. انتُخِب نائباً في الجمعية الوطنية الفرنسية للمرة الأولى عام 1993 عن (ما بات اليوم) حزب الجمهوريين. أما التحوّل الفعلي في مسيرته السياسية فكان عام 2012 حين اختار التخلي عن معقله الانتخابي في Vaucluse (جنوب شرقي البلاد) لصالح تمثيل الفرنسيين في دول الاغتراب، فترشح عن "الدائرة الاغترابية" الحادية عشرة والتي تشمل 49 بلدا تمتد من أوروبا الشرقية وروسيا مروراً بدول آسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وصولاً إلى اوقيانيا.  


فوز مارياني بهذه الدائرة أتاح له التفرغ للنشاط الأحب إلى قلبه: السياسة الخارجية، فكان يقضي 55% من وقته متنقلاً بين مختلف البلدان التي تشملها دائرته ما جعله قريبا من دوائر القرار السياسي في كازاخستان وأوزباكستان وأذربيجان كما وطد علاقاته بالمسؤولين الروس حتى بات منذ العام 2012 رئيساً لجمعية الحوار الفرنسية – الروسية ومن أبرز الشخصيات الفرنسية المؤيدة للسياسة الروسية خاصة إبان أزمة شبه جزيرة القرم عام 2014.


باختصار، تييري مارياني من المبهورين بالأنظمة التسلطية، فكل من احتك به يعلم عشق الرجل  للسباحة عكس التيار بغية خطف الأضواء. 


لكن والحق يقال أنه متصالح مع نفسه مقارنةً بسياسيين فرنسيين آخرين. فمن دون مواربة أو تذاكٍ، اعترف مراراً بسعيه لتعزيز مصالح فرنسا (لا سيما الاقتصادية منها) حتى لو كان المقابل تلميع صورة انظمة تدور حيالها علامات استفهام لناحية مدى احترامها لحقوق الإنسان أو لحرية الصحافة: ما يعنيه هو مصالح فرنسا أياً يكن الثمن. 


مواقف مارياني السياسية دلت دائماً على اصطفافه أقصى يمين الحياة السياسية، فبعد الانتخابات الرئاسية عام 2017 وخسارته لمقعده النيابي، نادى بضرورة انفتاح حزب الجمهوريين على حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان. وحين لم يجد أذاناً صاغية، أدرك أنه أصبح على الهامش فاتجه للترشح لانتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة على لائحة التجمع الوطني من دون الانضمام رسمياً للحزب.


هذا التحول واكبته الصحافة باهتمام بالغ إذ يمثل مؤشراً على تحول التجمع الوطني إلى حزب يغري "اليتامى" حيث سمح هذا التقارب لمارياني بالبقاء في الحياة السياسية خاصة وأن شبكة العلاقات التي بناها مع الروس تتماهى مع تقاطع الرؤى بين لوبان والكرملين.  


انضمام مارياني الى لائحة التجمع الوطني أضفى على زيارته الأخيرة طابعاً خاصاً، فكانت المرة الاولى التي يتبنى فيها حزب فرنسي زيارة من هذا النوع  بخلاف جولاته السابقة التي ظلت ذات طابع فردي.

على الدوام حملت زيارات مارياني إلى سوريا الرسائل السياسية نفسها: من حماية المسيحيين إلى محاربة الإرهاب الذي يصوره كهدف مشترك يجمع بشار الأسد بالدولة الفرنسية وصولا الى المصالح الاقتصادية الفرنسية. عند كل زيارة كان يُحدت بلبلة داخلية في فرنسا سواء لطبيعة لقاءاته التي شملت على الدوام بشار الأسد، أو ما ينشره من تغريدات كما في تشرين الثاني 2017 حين غرد أن شوارع دمشق أكثر نظافةً من شوارع باريس.

ويأتي الجدل أحياناً حين يحل ضيفاً على وسائل إعلامية فيطلق مواقف مثيرة للجدل كإنكار استخدام النظام أسلحة كيماوية، مواقف دفعت بصحافيين إلى شن هجوم عنيف عليه واصفينه بالمغفل المفيد  (Useful Idiot) فيما اتهمته جمعيات حقوقية بمُنظِر "إنكار" مجازر النظام السوري (Négationniste).


وعبارة "الإنكار" في القاموس السياسي والإعلامي والشعبي الفرنسي تحيل بصورة تلقائية إلى رفض الاعتراف  بالمجازر المرتكبة ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية وهي خطيئة اخلاقية قاتلة بنظر الرأي العام الفرنسي.  

علاقات مارياني الوطيدة بموسكو تفسر من دون شك جانباً من موقفه حيال النظام السوري. بالتوازي، يشكل المضمون السياسي لهذه الزيارات امتدادا لمزاج داخلي فرنسي ينادي بتطبيع العلاقات مع النظام السوري، خطاب ترفعه أحزاب وشخصيات سياسية (من اليمين المتطرف وصولا لأقصى اليسار) كما أقلام صحافية وحتى مسؤولين رسميين في وزارة الخارجية.


صحيح أن سوريا لم تكن ضمن الدائرة الانتخابية لمارياني لكن ذلك لم يحل دون أن تأخذ جزءا من نشاطه، فهو قصدها ست مرات خلال السنوات الأربع الماضية، تحدياً منه لدبلوماسية هولاند وماكرون بالدرجة الأولى. الأهم من ذلك أنه وفقا لقناعاته السياسية، يعتبر مارياني استئناف العلاقات مع النظام السوري وإعادة وصل ما انقطع مسألة وقت، وعليه يسعى لحجز مقعد لنفسه بغية تحقيق مكسب ما (سياسي و/أو مادي). قد لا تكون الأمور واضحة المعالم على المدى المنظور، لكن الأكيد أن زياراته المتكررة إلى سوريا ليست مجرد رحلات استطلاعية. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024