سلسلة "كوارنتين" المصوّرة: بعدما احتلّ كورونا أيدينا..

يارا نحلة

الجمعة 2020/07/10
كثيرة هي المشاعر والانفعالات التي تفضحها حركة اليدين. فماذا لو كانت هذه الحركة محكومة بهاجس مطلق يعطّل وظيفتها الأساسية، هو هاجس ملامسة الوباء القاتل ومخالطته؟ 
أحد مخلّفات إنتشار فيروس كورونا هو إحتلال اليدين، والعلاقة بهما، ونال حيزاً واسعاً من مجالنا الإدراكي، حتى أصبحتا مركز وجودنا ومحطّ تركيزنا في كل لحظة وكلّ مكان. 
من حركة اليدين المشحونة بالقلق والإقدام، تنطلق سلسلة "كوارنتين" المصورة، للفنان البصري علي دلول، في رحلةٍ إستكشافية على متن التجارب والإنفعالات والصراعات التي ولّدتها عزلة الوباء.

يفتتح دلول سلسلته، والتي تحوّلت لاحقاً إلى فيلم قصير، بلقطةٍ ليدين تتحركان بتردّد وإرتياب. يُلحقها بلقطاتٍ أخرى تتبع حركة اليدين أثناء قيامها بمهامٍ مختلفة. يدان تمتدّان إلى أزرار قميص فتاة مراهقة. يد تمضي بخراطيم التعقيم ذهاباً واياباً، وأخرى تمتدّ إلى الخبز. يدان تلملمان بقايا زجاج مكسّر. يدا الرئيس ترامب تخيطان مكيدة ما، أو ربما. يدان تقبضان على مطرقة...

لاحقاً، ينتقل التركيز من حركة اليدين وحدها، ليشمل الحركة عموماً، حركة الأجساد الثقيلة التي أضحت مكبّلة بقوانين السلامة. لا يعرض دلول الحركة بواقعيتها، بل يتلاعب بفيزئياتها موظفاً تقنيات المونتاج في إنتاج صورة لحركةٍ مفعمة بالعواطف والمعاني. يتسع مجال الحركة ثمّ ينحسر ليسبغ على العمل حالة من التوتر. يتفاقم هذا التوتر مع دوران كافة أشكال الحركة، من حركة السير إلى الطوفان حول الكعبة إلى حركة تعقيم الجدران، في حلقة دائرية، تعيد إستنساخ نفسها، من دون أن تؤدي إلى أي نتيجة.

هذه الإنسيابية، وكذلك التناقض، التي تتسّم بها الإنفعالات تتجلّى في العمل عبر المزاجات المختلفة التي تطغى على كلّ من الفيديوهات الثلاثة عشر التي شكّلت هذه السلسة. في مقابلة مع المخرج، يشير دلول إلى أنه كان يعدّ فيديو يومياً على مدى 14 يوماً، وكان يترك لمزاجه اليومي خلال فترة الحجر أن يحدّد مسار الفيديو وفحواه. النتيجة هي شهادة شخصية لفنان بصري يعيد تدوير المشاهد المصورة لصناعة صورته الخاصة. 

وعليه، يتضمن الفيديو جزءاً يسيراً من المحتوى الأصلي لدلول الذي يتجسّد عمله بصنع "كولاج" مؤلف من مشهديات سينمائية وواقعية تصف عالمنا في ظلّ الحجر. تتنافر المشاهد التي تلتقط الحياة الواقعية في المشافي والمرافق مع المشاهد السينمائية المقتطفة من أفلام بريسون وتاركوفسكي، والتي تظهر كتأملات في الفلسفة والإستطيقيا، ما يخرج العمل من دائرة التوثيق ويزجّه في فلك الصناعة البصرية التجريبية. 

إلا أن العمل لا يخلو من جانب توثيقي يبرز في المقاطع الصوتية المرافقة للفيديو، والتي قام دلول بتجميعها من أصدقاء ومعارف وبعض الأشخاص الذين يجهلهم وذلك من خلال رسائل صوتية أرسلوها له عبر تطبيق واتساب. 

واللافت هو طغيان الصوت الأنثوي على الشهادات التي يحويها الفيديو، لكن ذلك لم يكن متعمّداً وفق المخرج الذي يشير إلى أن الإستجابة التي تلقاها من كلا الذكور والإناث أظهر تفوّق النساء، في ميدان التعبير والإحتكاك بعالمهن الداخلي.

تتقاطع التجارب التي يتلوها المتحدثون، وتتناقض. ينحو بعضها إلى التفاؤل وينغمس البعض الآخر في السوداوية والتشاؤم. يتردّد في سردياتهم شعورهم بغموض المستقبل وتأجيل خططهم الحياتية، وإلغائها أحياناً. يعبّر البعض عن جهوزيتهم لإستقبال هذه الكارثة بعد سنواتٍ من التعايش مع الأزمات ومع القلق المنبعث عنها. يتحدّث البعض عن فقدان رؤيتهم السابقة للحياة، والتي ذهبت معها مفاهيهم للعلاقات البشرية والعمل والإنتاج. في إحدى التسجيلات الصوتية، تشير المتحدثة إلى حلول الحجر الصحي عليها كاستراحة عمل لم تحظى بمثيلها منذ خمسين عاماً. 

يحثّ ذلك كله، المخرج، على مراجعة علاقته الخاصة مع العمل، والتي يصفها بعلاقة "إدمان" دفعته، فور شعوره بالهلع، إلى تشغيل حاسوبه والإنكباب على العمل. "إلا أن نظرتي للعمل قد تغيّرت بشكلٍ جذري، وذلك مردّه إلى كورونا كما الأزمة الإقتصادية"، يقول دلول مستحضراً سبع سنوات من العمل المتواصل والكادح لحساب الآخرين لا يرى نتاجها اليوم، مع إحتجاز المصارف للأموال التي إكتسبها لقاء قيمة عمله، فيما قضت كورونا على ما تبقى من مشاريع وأهداف مهنية. يضاف إلى ذلك إجراءات وتدابير الوقاية من كورونا التي جاءت لتعيق ما تبقى من قدرة على السفر أو القيام بأية نشاطات. 

دفع ذلك بدلول إلى طرح سؤال "لشو؟"، أي بعبارة أخرى: ما الهدف من العمل والإنتاجية؟ ويقول مستنتجاً "إنني ضحية هذا النظام. فحتى خلال فترة الإستراحة العالمية، لجأت إلى مواجهة قلقي بالعمل. لم أستطع التوقف عن العمل أو أخذ إستراحة. عندما أنهيت كنت منهكاً. لم أشغل حاسوبي لأسبوعين بعد ذلك". 

يعاني الفنانون، بشكل خاص، عواقب أزمة كورونا التي قضت على كلّ فرص العمل تقريباً، لا سيما تلك التي تعود عليهم بمردود مادي. لكن بالرغم من هول الكارثة، فانها قد حرّرت الكثيرين، ومن بينهم المخرج، من الإغتراب الذي يؤطر علاقة الفنان، والعامل عموماً، بعمله وبمنتجه، والذي ينجم عنه في نهاية المطاف اغتراب عن الذات. اليوم يرى المخرج نفسه "غير منتج لكن ناجح". وعلى كلّ حال، ما نفع الإنتاج ما دامت ثماره مسلوبة إن من قبل صاحب العمل أو المصرف؟  يختم دلول "لا زلت مخرج و"ممنتج" لكنني اليوم أصور وأخرج لحسابي فقط".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024