هذه قصّة لتُكتَب

هلال شومان

السبت 2014/09/06

تفكّر أنه يبنغي عليك أن تغضب في الزحمة، وأن تعبّر عن شعورك بأن تخبط المقود مثلًا، أو تُنزِل زجاج نافذتك لتشتم مَن عَبَر أمامك كأنه يمتلك الطريق. لكنك لا تفعل هذا، ولا ذاك. تكتفي بأن توقف السيارة، وتترك الدراجات النارية الصغيرة تتقافز حولك يمينًا ويسارًا، مسرعةً كأنها اكتشفت أنها موجودة للتوّ، أو كأنها تثبت للمرة الألف انتصارًا متميزًا وسط كوم السيارات المتشابهة المتراصة. ثمّ تنهمك بالتفتيش عن تفاصيل نافرة وسط كل هذه الفوضى التي لم تغب عنها سوى شهور كثيرة.

يبدأ الأمر بالأصوات. ما بال أذُنيك قد صارتا أكثر حساسية لها؟ كأنّك تنضمّ لجماعة الآن، أو كأنك تنسحب منها؟ لا تذكر ما يقوله كتاب هيثم الورداني الرقيق "كيف تختفي". لستَ متأكّدًا إن وَرَد تعاظم الانتباه في فصل الانضمام للجماعة أو في فصل الانسحاب منها، لكنّك تعرف أنك قادر الآن على ملاحظة أشياء لم تكن تنتبه لها في إقامتك السابقة هنا، ولا تعرف سببًا لقدرتك هذه.
تصير كأنك هنا، ولستَ هنا.

عندما تَرِد هذه الجملة في ذهنك، وأنت تنظر إلى التدافع باتجاه مسرب السير المفضي إلى إشارة ستصير حمراء بعد ثوانٍ، تفكر في عدد المرات التي استخدمها فيها كاتب ليصف حالة مفترضة لا يستطيع القبض عليها. ثمّ، ولأن وعيك قد تضخّم في الآونة الأخيرة مع دفق التصريحات الشخصية حولك، دفق صار متوقعًا يحوي ردات الفعل ذاتها التي تلي أي حدث، لذلك، تسأل أيضًا: كم مرة هزأ كاتب آخر من هذه الجملة، وظنّ أنه يقوم بشيء مميز بملاحظته هذه؟

قبل وصولك إلى الزحمة، دخلتَ النفق المظلم، فأضاءت جدرانه لك فجأة. أنت اقتنعتَ أن هذه إشارة احتفاء بك، فوسّعتَ قليلًا من ابتسامة عودتك. وقبلها بيوم، تعامل معك السائق الذي أقلّك لبيروت كسائح. أخذ يطرد الزبائن في المقعد الخلفي خارج السيارة، كلّ قبل وجهته،  فقط لأنّك دفعتَ له أكثر لتصل إلى موعدك. صار يحدّثك عن دبي المدينة المفتوحة وعن الأبراج، وأنت فكّرت أن تقول له إنّ الأمر ربما لا يستحق هذا كله، وإنّ كل هذه التوصيفات، المادح منها والهاجي، هي مجرد انطباعات لم تدخل عمق التجربة، لكنّك تراجعت لأنه لا معنى في أن تقول أشياء كهذه لسائق يطرد الركاب.

في زيارة ماضية، جلس حسين إلى هذه الطاولة في المقهى، مسندًا ساقاً على ساق، وقال فكرة عبرت ذهنك قبله، وأنت ضحكتَ لهذه المفارقة التي تتكرّر معك دائمًا، كأن ذهنك يحضّر لها، أو كأنه يسيطر على أفكار الأصدقاء القدامى والغرباء الجدد الذين تصادقهم. قال حسين إننا، لو نظرنا إلى بيروت من الأعلى سنرى خزّانات كثيرة. والحديث انتقل بعدها من الخزانات إلى أسطح المباني في المدينة، والتي اكتمل بناء بعضها، وتُرك بعضها الآخر بلا إنهاء، لكنّها كلها تشترك في حسّها المهمل. وانتهى الكلام بالجزم المؤقّت (أي عاش لمدة الحديث فقط)، بأنّ هذه صورة أخرى للمدينة، من ضمن صور قريبة وعصيّة على الالتقاط.

تغمض عينيك وتحاول استحضار المشهد من فوق. تجمّله كمشهد ابتدائي في فيلم مع صوت عابر يشي بالنهاية المبهمة، فقط في البداية، عن جمال مدينة ما. لكنّ الصورة تقتحم سواد إغماضتك بشكل مختلف عن مشهد الفيلم. ترى بيروت عارية من الأعلى، وتتيقّن أن أحدًا في الأسفل لا يعرفها على هذا الشكل من هنا. تلمحها صفراء، متربة، ملوثة، تطير بين أسطح مبانيها أسراب الحمام، وترى الكشاشين يسرق بعضهم حمَامات البعض الآخر.

تفكّر من جديد بأنّ هذا المشهد يستحق قصة، ولهذا عليك أن تعاين بعينيك بدلًا من أن تغمضهما. تنفّذ، فتدخل بناية كنت تمرّ دائمًا بقربها، ولا تعرف في شققها أحدًا. تصعد الأدراج، وتمنّي نفسك بباب سطح مفتوح بعد كل هذه الطوابق التي تخطيتها، وكل هذا العرق الذي ألصق قميصك بظهرك.
وتصل.

تجد الباب مفتوحًا ينتظرك. هذه إشارة احتفائية أخرى، تقول في داخلك، وتبتسم ابتسامة  تحدس أنها مختلفة عن ابتسامة عودتك. ثمّ تخرج إلى الإهمال. تقف بين الخزانات والهوائيات والصحون اللاقطة والقساطل والأحجار المبعثرة. تنظر إلى الأسفل.
تحدّق بهم في فقاعاتهم، منهمكين في مشيهم، واقفين على النواصي، عالقين في السيارات، جالسين إلى الطاولات. يتنقلون جنبًا إلى جنب. يتخبطون في بعضهم البعض. يصرخون. يبالغون. يستثمرون في إنهاك مشاعرهم بتفاصيل تظن أنها لا تستحق كل هذه الطاقة المهدورة. ثم ينبثق صوت أكثر حزمًا. صوت مولّد. صوت سيارة شرطة. صوت إسعاف. شتائم رجال تتضارب وسط الطريق. أي شيء لا يغيّر من هوية الضجيج. أي شيء يبقيه ضجيجًا، ويراكم فوقه.

الفيلم يختلف. وبدلاً من المشهد الابتدائي النازل من الأعلى، تستحضر مشهدًا ختاميًا. يظهر فيه العنكبوت العملاق الأسود، يمشي برِجلين اثنتين (فقط) باتجاه المباني من ناحية الشاطئ، وينتهي بأن يظهر يأخذ مكان امرأة حامل كانت تغتسل تحت الدوش في لقطة سابقة، ولا يتّسع له الحمّام.

تفكّر في شرح آخر لكل هذا. في مشهد يواجه فيه الحزن، العنف. كلما نظر الحزن في العنف، قلبَه حزنًا. ومن ثمّ، وبعد أن ينتهي من التهامه، يتبعثر موحيًا بالتلاشي فيما هو يتوزّع في كل مكان. هذه عملية تشبه القصص في لحظاتها الأخيرة قبل أن تنتهي، أو قبل أن تبدأ من جديد. توجّه نظرك نحو البحر، وهذه المرّة، بدلاً من العنكبوت العملاق، ترى أطفالًا أربعة يحملون أسماء أنبياء ثلاثة يعدون فوق الرمل. لا تعرف كيف عرفت أسماءهم، ولا تهتمّ لهذا التفصيل.  تنهمك عيناك بتوثيق مناكفات اللحظات الأخيرة، تنتبه للَفتات المناكفة من أحدهم إلى الآخر، ثم يتحولون كلهم إلى صورة مبكسلة تثبّتهم عند رفعة أكتاف واثقة، وأيدٍ منطلقة، وأرجلٍ محنية توحي بالوصول.

هل وصلوا؟
تعرف أن لا إجابة، وأنّ هذا لم يحدث هنا. ليس في هذه المدينة. تلك مدينة أخرى، وشاطئ آخر، ومبنى بسقف مهمل آخر. هذه قصة ثانية.. ثالثة.. ستكتَب. وأنت تحبّ هذا السطر. تكرره دائمًا. "هذه قصّة لتُكتَب". هذه أفكار تمتد، وتنكمش، ثم تنبعث خليطة، تصل مكانًا بمكان، وصورة بصورة، وصوتًا بصوت. هذه أغنية تعيدك إلى مشهد بعينه، وشعور واحد ينتج القشعريرة نفسها. هذه شتيمة واحدة بقيت على حائط، ترجعك إلى ليلة سكرتَ فيها مع أشخاص غادروا إلى ما وراء المحيط. هنا وقّعت على ملصق استهزاءً، وهناك فوق الدرجة السابعة عشرة (عددتَ الدرجات!) وقفتَ ونظرتَ إلى البحر، وخطر لك أنّ المدن الساحلية كلها تشترك في حزنها، ثمّ نفضتَ الفكرة من جديد، وقلتَ إنّ هذه مبالغة سقيمة، وإنّ شرح هذا كلّه يتطلّب حفرًا أعمق، ومقاربة أكثر جدية.

هذا كله سيتوقف بعد يومين. ستعود لأبراج مدينة السائق في المدينة المفتوحة، تصادق كلبًا أو تمرّر يدك على ظهر قطة. تريح نظرك في الطريق السريع الذي لا يلتوي، وتخفف من حساسية أذنيك، وتمنّي نفسك بالعودة إلى هنا مجددًا بعد أسابيع، لتكتشف من جديد هذا الخبط الإيقاعي، وتنهمك في حبّ فتاة. تأمل ألا تجد جدران الأنفاق السوداء أكثر سوادًا في المرة المقبلة، لكنّك تعكس الفكرة من جديد وتلاعبها. تقتنع للحظة تالية أن سوادًا أكثر يعني أن الحزن يتعاظم أكثر، وأن هذا شيء جذاب يحقق مشاهدك. ثم تلاعب الفكرة مرة أخرى لتطلق أسئلة قد تهدم مَشاهدك بأكملها. كيف لنا أن نوجّه حزننا؟ ماذا لو حزنّا وبعد هذا كله لم يخترب أي شيء من هذا الذي ننتظر أن يخرب منذ أعوام طويلة؟ ماذا لو بقي كل هذا، وفقدنا القدرة على إنتاج الحزن؟ ماذا لو قضى علينا حزننا؟ وهذا الحزن نفسه، هل ابتُذِل حدّ التلاشي؟ هل لكلّ هذا آخر؟ أم أن باباً ينفتح خلف آخر؟

يغادر كثر منّا ويعودون. كلما عادوا، انتبهوا ورأوا. أملوا، مع تضخّم التفاصيل أمامهم، أن يفهموا أكثر. لكنّ هذا لا يحدث. لا يفهمون، ويتعاظم شعورهم بالاغتراب مع كل زيارة.
ويخطر لهم، في لحظة، قبل أن يغادروا، أنّ هذا الإحساس بالسقوط  لن يتوقّف، ولن يفارقهم، لا هنا، لا في الخارج.
وهذه، على الأرجح قصة، قد تكون أخيرة، لتكتَب. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024