لأن الحياة تحدث في "هذا المساء"

أحمد ندا

الأربعاء 2017/06/28
لا تدل الوفرة دائماً على الجودة، ولا أدل على ذلك من خيبة الأمل التي رافقت الموسم الدرامي في رمضان، والمتراوح بين اقتباسات من كتب كلاسيكية، أو إعادة إنتاج لكليشيهات مملة، حتى بات الحديث السنوي عن "أزمة" تطال هذا النوع الفني الذي يُضخ فيه مئات الملايين كل عام، مشروعاً، ليس على مستوى النقاد فقط بل على مستوى الجمهور العادي المتابع للدراما بانتظام، والذي بات قادراً على إبداء رأي أو انطباع عن أي عمل جديد بمجرد متابعة حلقاته الأولى، أما الأعمال القادرة على إسكات المنتقدين تماماً قبل نزول تتر النهاية للحلقة الأخيرة، فهي نادرة.


ووسط كل هذا الضجيج الدرامي الحالي، يبزغ مسلسل "هذا المساء" كحالة شديدة الخصوصية، تفرض التعامل معها بعد انتهائها بالكامل بدلاً من الاستعجال في تقديم آراء متسرعة أو انطباعات سطحية، وضرورة إعطاء أصحاب المسلسل فرصة كامل لتقديم بنيتهم السردية الخاصة حكائياً وبصرياً. خصوصاً أن العمل يتسلل بهدوء إلى وعي المشاهد، من دون أن يمنحه هدايا الجذب المجانية، كالصراعات الصاخبة أو إيقاع الأكشن الأميركي.

والحال أن العمل يتحرك في مساحة الدراما الاجتماعية الصرفة، التي بدا للجميع منذ أعوام أنها انتهت وقدمت كل ما يمكن تقديمه في إطارها وأصبحت تكرر حكاياتها وقصصها بشكل ممل. لكن المسلسل الجديد استطاع ببراعة أن يثبت ما قاله المخرج الأميركي جيم جارموش مؤخراً بأن هنالك عدداً محدوداً من القصص، وعدداً لا محدوداً من الطرق لقصها. وهذه الخاصية بالتحديد هي التي جعلت التمهل في انتقاد المسلسل حتى انتهائه تماماً، أمراَ ضرورياً من أجل إنصاف التجربة وإعطائها حقها، كمسلسل ذو علامة فارقة في الدراما المصرية، وسيكون الرهان عليه عالياً في الأعوام القادمة كمرجع للمقارنة كواحد من أهم الأعمال التلفزيونية التي قدمت في هذا العقد.

أول ما يتبادر إلى ذهن مشاهد "هذا المساء"، بعد حلقاته الأولى، هو الحيرة، فكيف يمكن لمسلسل ما أن يمضي بإيقاع هادئ، من دون مط أو إطالة، ومن دون أن يغري المشاهد بإثارة بصرية وإضافات "حرّيفة"، وتزداد تلك الحيرة بملاحظة أن المسلسل لا يقدم قصة، بل بناء درامياً متكاملاً، حيث العناية بكل عناصره، من الصورة والموسيقى وشريط الصوت، والسيناريو الذي لا يلجأ إلى الحلول السهلة.

بالتالي، كان من الممكن لصناع العمل أن يستسلموا للحلول الدرامية المعروفة، كأن يكون الحوار القائم على الثرثرة هو ما يسد ثغرات السيناريو، مع مونولوجات ميلودرامية قادرة على جذب المشاهد بمشاعر لحظية، وتعطيه فرصة "التورط" في اقتطاع مشهد للمشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك لم يحدث. وعليه فإن الإحكام هو نقطة القوة في المسلسل ككل. وفي وسط المشاهد المقتطعة من عشرات المسلسلات ونشرها عبر السوشيال ميديا، يندر وجود مشهد متفرد من "هذا المساء" يمكن أن يخطف عين المتفرج العابر، لأن عين صناعه لم تكن مركزة على ذلك النوع من الجمهور.

ويجب القول هنا، أن الدراما تتميز عن الأسطورة في أنها تكشف عن الشخصية، خصوصاً أن الأسطورة تشرح كل شي للمتلقي وتغلق عليه دائرة البحث أو التوقع لما يمكن أن يحدث لمستقبل حكاية الحدث. وبالتالي فإن "المشكلة" هي التي تتحكم في الأسطورة وهي محورها الأساس. بينما الشخصية في الدراما هي ما يمنح المشكلة قيمتها، ويتحقق ذلك عبر إحكام السرد. وإن كان الوجود كله عبارة عن سرد متواصل وحكاية إنسانية طويلة، فإن الأفعال الإنسانية على اختلافها هي شكل من أشكال الحكاية مع تعدد أنساقها الثقافية، وتصبح الدراما هنا عل السؤال الدائم عن كل ماهو كامن لتحاول الموازنة بين الذاتي والمحسوس والمادي والموضوعي، عبر عدد من المعطيات الجمالية، صوتياً وبصرياً وحكائياً، وهي المنطلقات الأساسية لـ "هذا المساء".

في السياق، يدور المسلسل ضمن مكان وفكرة في وقت واحد. وبينما يأخذ المكان شكلاً افتراضياً هو شاشة الموبايل، لا تتعدى الفكرة حياة الشخصيات المتقاطة وراء الشاشة والمصائر المحددة بها. حيث تجري علاقات اجتماعية كاملة داخل المكان الافتراضي بينما تتدمر حياة شخصيات أخرى من وراء تلك العلاقات. ويضيف وجود "القرصنة" كمحرك أساسي للأحداث توتراً درامياً يدفع الأحداث نحو عمقها النفسي.

وقد يتساءل البعض عن سبب تسمية المسلسل بـ "هذا المساء"؟ وعلاقة ذلك بالأحداث. الإجابة سهلة وتتجلى في شقين، الأول مرتبط بواحدة من لقطات العمل المبكرة، حين يظهر النصف الثاني من عبارة "أين تذهب هذا المساء" في السينما المهجورة، أحد مواقع التصوير البديعة في العمل. والثاني فهو إجابة درامية قليلاً وترتبط بأن الحياة من دون رتوش تحدث في المساء، لأن النهار عادة هو وقت الضرورة المادية والعمل، أما المساء فهو الوقت الذي يخلع فيه الفرد ملابسه الرسمية ويفسح المجال لشخصيته وأسئلته وعوالمه الحقيقية المجال للظهور.

لا ينتظر القارئ تلصصاً على حكاية المسلسل في هذا المقال، فليس ثمة ما يمكن أن يُحكى، لأنه العمل المعني ههنا ليس حكاية، بل عملاً فنياً متكاملاً من صورة وصوت وتمثيل، أدت جميع عناصره دورها دون بلا زيادة أو نقصان. حيث أعاد سيناريو محمد فريد وورشته الاعتبار مرة أخرى لذلك الفن الغارق تحت أطنان الثرثرة الحوارية، كما اعتنى المخرج تامر محسن بتفاصيله البصرية والصوتية إلى درجة جعلت متابعي المسلسل، في واحدة من المرات القليلة في الدراما المصرية، يعلقون على طريقة التحكم في الضوء والظل، وإخراج الألوان من دون أن يكونوا قريبين من الصناعة، كما أن شريط صوت المسلسل تحول إلى قائمة منفردة في "يوتيوب" يبحث عنها متابعو المسلسل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024