لا يمكننا العودة إلى الطبيعي

يارا نحلة

الخميس 2020/04/09
"لا يمكننا العودة إلى الطبيعي، فالطبيعي الذي كنا نحياه هو أساس المشكلة"... عبارة كتبت على جدار في مدينة هونغ كونغ. الطبيعي، كما عرفناه، إنقض في الأشهر الفائتة على رئة الكوكب، مجسّدةً بغابة الأمازون، قبل إنقضاض كورونا على رئاتنا. والطبيعي الذي إعتدناه، أضرم النار في مليونَي حيوانٍ حيّ، ذوّب الجليد، وهو على وشك إطلاق أعداد من السلالات الفيروسية والبكتيرية النائمة منذ آلاف السنوات. هذا الطبيعي، الذي عرفناه، لم يتوانَ يوماً عن حصد آلاف الأرواح بالسرطان، الفقر، أو الحروب.

بعد إنتشار ظاهرة إنتحار عمال الشركات العالمية الضخمة في الصين، إرتأت شركة Apple أن الأمر الطبيعي لفعله في هذه الحالة ليس تحسين ظروف العمل المزرية بالطبع بل نصب "شبكات أمان" تلتقط العمال الذين يحاولون الرمي بأنفسهم من نوافذ المصنع. وإبان تدفق لاجئين سوريين من تركيا إلى اليونان، في جولة الصراع الأخيرة بين الدول الكبرى، كان من الطبيعي جداً بالنسبة لليونان إنزال أشدّ أنواع الإذلال بهؤلاء اللاجئين. أما ترامب، فقد بدت له فكرة سجن أطفال أجانب في أقفاص حديدية غاية في الطبيعية.

في المحصلة، لم يعد النمط الطبيعي لعيشنا يتماشى مع القانون العام للطبيعة. وها هي هذه الأخيرة تذكّرنا بموقعنا. في الإعلام العالمي، مئات التحليلات تترقب إنهيار المنظومة العالمية التي عهدناها، بقيمها السياسية والإقتصادية والإجتماعية. ففي غضون أسابيع قليلة، أقفلت غالبية البلدان حدودها ومنافذها، وتقوقعت في أمان عزلتها. تحوّل العالم من "قرية كونية" إلى جزر منعزلة. حالة الطوارئ أعلنت في الكثير من البلدان، وفي نفوس البشر أجمعين.

حتى الآن، ما زالت قدرة الفيروس البيولوجية على الإختراق والتحوّل والفتك بجسد الإنسان، أسرع من قدرة البشر على توظيفه لصالح عجلة إنتاج نظامهم الإقتصادي. فالقانون الوهمي الذي وضعوه لكافة علاقاتهم وتبادلاتهم هي بالطبع عاجزة عن إقناع البيولوجيا وحملها على تسيير إنتقائها الطبيعي على أساس الأوراق النقدية. إلى حين إيجاد العلاج المضمون على الأقلّ، لا يميز هذا الوباء بين البشر على أساس الطبقة. لكن أرواح البشر ليست الأمر الوحيد على المحكّ، فحتى لو استطاع الأثرياء وأصحاب الإمتيازات الإفلات بأنفسهم من قبضة الإنتقاء الطبيعي، يصعب تصور نجاة منظومتهم، بشروطها الحالية.

لعلّ أكثر شروط العيش المعاصر التي تأثرت بإنتشار الوباء هي العمل. فقد أدرك البشر، بشكل فجائي، حاجتهم الماسة لمن كانوا يدعونهم "عمّالاً غير متمرسين"- موظفي المطاعم ومحلات البقالة ومعامل الإنتاج الغذائي والتنظيف والتوصيل- الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى عمال أساسيين لإستمرار حياة المجتمع والحفاظ على صحته المهدّدة. يصعب، بعد هذه التجربة، تخيل عودة الناس إلى إستهتارهم السابق بالعمال المهمشين والمنسيين، في مقابل تقديرهم لأصحاب المواقع والمناصب، أولئك الذين لن يتردّدوا في إحتكار سترات النجاة إذا ما غرق المركب بالكامل.

ثم ما الحاجة إلى هؤلاء؟ فقد أثبتت هذه اللحظة التاريخية كم من السهل الإستغناء عن كثير من الخدمات والمنتجات التي إبتدعتها الرأسمالية، في مقابل حاجات أكثر إلحاحاً، كالرعاية الطبية. وللمرة الأولى، في ظلّ النظام الرأسمالي الحديث، تُطرح الرعاية الصحية كحاجة جماعية عالمية يتوقف عليها إستمرار الصنف البشري. لا يكفي إنقاذ حاملي بوالص التأمين الباهظة فقط، ذلك أن صحة الأفراد، وحتى الفقراء منهم، هي شرط أساسي لصحة الكوكب وأمنه.

للمرة الأولى أيضاً، إنقلبت المعادلة العالمية التي تأمر الناس بالخروج إلى أعمالهم من أجل الإنتاج أو الإستهلاك، وهما الفعلان اللذان يحدّدان قيمة الإنسان وموقعه. الجميع مدعو اليوم إلى إعتزال المجال العام وملازمة المنازل. لكن، إزاء هذا المطلب الجديد، تعلو صرخات الناس الذين لا يملكون رفاهية المنزل، من مشردين ولاجئين ومستأجرين هشين. إن هذا الوضع المستجدّ أعاد فتح نقاش، وكان قد نُسي بعض الشيء، تحت ضغط الأمر الواقع، حول السكن كحق إنساني مسلّم به.

لكن، في ضوء هذا الدفاع المستميت عن ملازمة الحيّز الخاص، تتكشف ملامح فاشية جديدة لدى الشرطة المجتمعية التي إنتقلت من حراستها لقدسية العمل وحق إستخدام الطرق، إلى حراسة المجال العام من العنصر البشري نفسه.. ولا أرض أكثر خصوبة لهذه الفاشية من حالة الذعر المطلق. هي فرصة ذهبية لتدجين البشر، وهم قد سلموا أنفسهم بالكامل لسلطة الميديا. فهل تُختزل الرأسمالية، من اليوم فصاعداً، بفضائها الإفتراضي؟

لا شكّ في أن إقتصاد العالم، في ورطة لم يشهدها من قبل. الأرقام تدعو للتفاؤل، إذ تشير إلى خسارة الولايات المتحدة، وحدها، حوالى 500 ألف "مليونير" منذ تفشي "كورونا". كما فقد أثرى أثرياء العالم، وعددهم 500 شخص فقط، قرابة 1.3 مليار دولار منذ بداية العام. لعلّ الأمل الوحيد أمام البشر للإفلات من سطوة المال هو بظهور مصيبة أكثر إستعصاءً من مشكلة المال نفسه. فهل سنشهد إنهيار الرأسمالية الموعود؟ أم أنها ستنجح، كما كل مرة، في تحويل أي أزمة بشرية إلى مصدر ربح؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024