ليبقى الغد يوماً آخر

إيناس شري

الخميس 2019/10/03
"يلا ينام يلا ينام لادبحلو طير الحمام.. روح يا حمام لا تصدق.. بكذب ع دانيال تينام"... هكذا أعلن انتهاء يومي وبدء الليل. أسحب يدي من تحت رأس ابني بهدوء كي لا يصحو. ألمح انعكاس الضوء الخفيف عليها. أخالها ملأى بالتجاعيد. أعيدها بسرعة إلى حيث كانت. أكمل دندنة الأغنيّة وعندما أصل إلى جملة "قولو لأمي قولو لبيّ.. خطفوني الغجر من تحت خيمة مجدلية"، أشعر بضيق في صدري وبشيء يشبه الاختناق. أجمع أنفاسي. أقبّل جبينه وأنهض من قربه. وقبل أن أطفئ الضوء، أسترق النظر إلى مرآة الغرفة، وبهدوء أمدّ يدي تحت ملابسي أفكّ حمّالة صدري، أتركها تسقط على الأرض. أخطو فوقها ومن ثمّ ألمّها وأرميها في أقرب مكان. أدير ظهري وأمشي.

في تلك الليلة، تغيّر شيء ما، لم أسترق النظر، بل نظرت طويلاً في المرآة. لم أدر ظهري لحمالة الصدر بل تأملتها وضحكت طويلاً: تبدو كأنها لجدتي، باهتة مكسورة، حتّى رأسها مائل وكأنّ أحداً شنقها، تبدو وحيدة وحالها يدعو للرثاء، لكن ما في اليد حيلة..

أخرج من الغرفة وأنا أفكر ضاحكة بحمّالة الصدر المسكينة، وعلى سيرة المساكين أتذكر فستاناً ملوناً كنت اشتريته منذ سنوات، اشتريته في لحظة تهوّر شديد للقاء غرامي قريب لم يحصل مرّة. أعود إلى الغرفة أبحث عن الفستان وأجده. أحاول أن أرتديه، وبعد أن أقفل سحّابه الجانبي بصعوبة، اتنبّه بأنّه لم يعد يليق بي، بلى لا يزال لائقاً، لكني كسبت بعض الكيلوغرامات حول خصري.

أحدّث نفسي بصوت عال: لا مشكلة سأشتري فستاناً يشبهه، وأكبر بمقاس واحد فقط، أو ربما أتبع حمية غذائية وينتهي الأمر، وأرتديه نهاية الأسبوع المقبل، يوم السبت المقبل، لموعد غرامي قد يطرأ في أي لحظة.

أرمي الفستان على الأرض، وأذهب إلى المطبخ، أفتح البراد وأحضر ما أراه أمامي، كيس تشيبس، ألواح شوكولا، بقايا طعام شكلها غير مشجّع، أيّ شيء وربما كلّ شيء. أجلس على الكنبة، أبدأ بالتهام ما أحضرته. أقلّب محطّات التلفاز، أعلّق على خبر يمرّ في نشرة الأخبار بصوت عال وكأن هناك من يسمعني أشتُم وزيراً أو نائباً. أبدّل القناة، مشهد رومانسي يملأ الشاشة. البطل يحاول التقرّب من البطلة الغاضبة، وحديث طويل يدور بينهما. أتأفأف وأناقش المشهد مع نفسي وبصوت عال أيضاً: لماذا كلّ هذه المقدّمات والأخذ والردّ، ولماذا تجلس البطلة بهذه الطريقة؟ ثمّ أن فستانها غير مناسب لعشاء رومانسي، ماذا لو ارتدت فستاني؟ انتظر البطلة حتى تقف لأقارن بين خصرها وخصري، على الأرجح فستاني لا يناسبها، تحتاج واحداً أصغر بمقاس أو مقاسين، وربما ثلاثة، لا يهم. ماذا لو أعطيتها حمّالة صدري المسكينة؟ أفكر بخبث، أقارن بين صدري وصدرها، أضحك.. صدرها صغير، الأفضل أن تبقى بلا حمالة صدر.

يطول المشهد الرومانسي، وبينما كنت أفكّر في الفستان وحمّالة الصدر، يبدو أنّ البطل والبطلة تصالحا من دون علمي. أشفق على البطلة من دون سبب، أخبرها كم هي مسكينة، وأغيّر القناة.

أنتقل من قناة إلى أخرى، من دون أن أتوقف عن الأكل لحظة. أتذكّر، وبعدما أن انتهي من أكل الشوكولا كاملاً، أنني لا أحبه، وأنني منذ لحظات تكلّمت عن حمية غذائية. لا مشكلة، سأبدأ غداً. ثمّ إنّ هذا الفستان مخصص لموعد غرامي طارئ، وها نحن اليوم الإثنين الساعة العاشرة مساء، لا مواعيد في الأفق.

أطفئ التلفاز، أنفض عن ملابسي فتات ما أكلته، وأخرج إلى الشرفة، أشعل سيجارة وأكمل حديثي مع نفسي: لا يمكنك أن تبقي هكذا، عليك أن تخففي من التدخين، أن تأخذي الأمور على محمل الجدّ، بدءا من يوم غد. أشعر بصرامة نبرتي، أطفئ السيجارة، أنظّف أسناني، وأذهب إلى السرير.

نعم، غداً يوم آخر. سأستيقظ باكراً ككلّ يوم، أحضّر فطوراً لابني، أساعده ليرتدي ملابسه، أوصيه بأن يركّز في الصفّ، أوصله إلى المدرسة، أقبّله وأخبره بأنني أحبّه. سيمتعض، أيضاً ككلّ يوم، لأنني أحرجته أمام التلامذة. أذهب مسرعة إلى العمل. أشعر أنني "روبوت". أتململ وأكمل عملي، وكأنني لم أشعر بالروبوت. أخرج مسرعة من العمل. أفكّر إن كان لا يزال الوقت يسمح لي أن أطبخ، أم علي طلب الطعام الجاهز. أتّصل بدانيال أسأله ماذا يفضّل، أعود إلى المنزل، أضع الملابس في الغسّالة، أتابع دروس دانيال بينما أجلي أو أطبخ. أكرّر كلمة بسرعة عشرات المرّات. يمتعض مجدداً، ففي نظره لا شيء يدعو للعجلة. أحمّمه، نقرأ قليلا، أروي له قصّة، وأغني له "يلا ينام ينام، يلا ينام"، يغفو وأسحب يدي من تحت رأسه. ليبقى الغد يوماً آخر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024