نوبل 2018.. موسيقى الثورة الرابعة

أحمد مغربي

السبت 2018/10/06
جائزة "نوبل" للفيزياء في 2018 تشبه عزفاً لصعود الثورة الصناعيّة الرابعة.
الأرجح أن جوائز "نوبل" الثلاث في العلوم (فيزياء، كيمياء، وطب) مثّلت أنشودة موسيقيّة جديدة للاقتراب المتسارع للثورة الصناعيّة الرابعة Fourth Industrial Revolution. وبرز فيها الاهتمام بعلم النانوتكنولوجيا Nanotechnology الذي يُكثّف "قصة" تلك الثورة ومساراتها، خصوصاً كونها لم تحقق... ليس بعد! 

وفيما لم ينطِقْ معظم الاعلام العربي بكلمة عن علاقة جائزة الفيزياء بعلوم النانوتكنولوجيا، تتناول السطور التالية علاقة جائزة "نوبل" للفيزياء مع الثورة الصناعيّة الرابعة، باعتبارها نموذجاً مكثّفاً عن التمهيد علمياً وتقنياً لتلك الثورة.

واستطراداً، يجدر التنبّه إلى الكلمات التي استخدمتها "الأكاديميّة السويديّة" في بيانها عن الإنجاز الذي كُرِّم في الفيزياء، إذ وصفته بـ"تحقيق حلم قديم للخيال العلمي"، مع الإشارة الى أن العلم الذي تحقّق حلمه فيها ليس سوى النانوتكنولوجيا، وأن تحقّق ذلك الحلم يساهم في الاقتراب المتسارع للثورة الصناعيّة الرابعة.

لكن، قبل الخوض في التفاصيل، الأرجح أن تحرّك الكلمات السابقة لدى الكثير من القرّاء العرب، خصوصاً من يتابعون الإعلام العربي، شيئاً من الابتسام المتهكّم. ذلك أن معظم ذلك الإعلام يتحدّث، معظم الوقت، عن الثورة الصناعيّة الرابعة كأنها شيء أُنجِزَ واكتمل وانتهى، وتالياً يكون الحديث عن اقترابه شبيهاً بالاستيقاظ المتأخّر! 

وفي المقابل، إذا جرى التدقيق في الأمر قليلاً، يتبيّن أن ما يحصل فعليّاً في العلوم والتقنيّة حاضراً هو نوع من تراكم وفتح مسارات ومعزوفات استهلاليّة هارمونيّة ضخمة، تشير إلى الاقتراب الوشيك لتحقّق الثورة الصناعيّة الرابعة! مفارقة؟ ربما. هل يكفي القول بأن ذلك هو رأي قوى أساسيّة في الدفع بتلك الثورة والتفاعل معها، كـ"المنتدى الاقتصادي العالمي" (منتدى دافوس) و"منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" ومجموعة من التقارير الاستراتيجيّة لمؤسّسات ومراكز مختصة، خصوصاً في أميركا؟  

ويرجع التمهل والتروي قبل القول بأن الثورة الصناعيّة الرابعة متحقّقة، بل حتى الجزم باستكمال بداياتها، إلى ضخامة الأساس العلمي- التقني الذي يتوجب أن يُنجَزْ ويُرسى، كي تدخل تلك الثورة إلى مسارها الفعلي. وكذلك من المستطاع القول بأن مطالعة سريعة للثورات الصناعيّة الثلاث التي تحقّقت، بل تعيش المجتمعات حاضراً اكتمالها وتكاملها، تبيّن مدى التراكم العلمي الذي سبق كلاً منها. إذ ارتكزت الثورة الصناعيّة الأولى إلى المحرك الميكانيكي وأنواع الطاقة المتصلة به، ونهضت الثانية بفضل التقدّم في أنواع من الفيزياء مكّنت من وضع الكهرباء وقوّتها في خدمتها، وتميّزت الثالثة بالفورة العلميّة التي صاحبت التقنيّات الإلكترونيّات ثم المعلوماتيّة- الرقميّة. بل إن اندماج تلك التقنيّات، أحدث تغييراً أساسيّاً في الصناعة المتراكمة من الثورتين السابقتين عليهما، عبر مسار أتْمَتَة Automation الانتاج بصورة عامة، ويؤدي الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence ، وكذلك الروبوت، دوراً أساسيّاً في تطوّر مسار الأتمتة.  

وتستند الثورة الصناعيّة الرابعة إلى الثالثة وما سبقها من تراكم، لتصنع أفقها المتميّز وفائق التطوّر: اندماج الفضاءات العلميّة في الفيزياء والبيولوجيا والرقميّة. وبقول آخر، ما يميز الثورة الصناعيّة الرابعة هو اندماج العلوم المتصلة بالبيولوجي العضوي (نبات، حيوان، إنسان، بكتيريا، فيروس...)، مع العلوم المتعلقة بالطاقة والمادة الجامدة، خصوصاً الفيزياء.

ملاقط من ضوء!
الأرجح أن الثورة الرابعة تتضمّن قفزة واعية في العقل الإنساني لم يتجاسر عليها منذ بداية العلوم الحديثة، وهي تتمثّل في تطوير علوم وتقنيّات تقدر على تخطي الحدود بين المادة الجامدة و"نقيضتها" الحيّة، وبين العضوي واللاعضوي، وبين الذرّة والجينات، وبين ذكاء الدماغ البشري وذكاء الآلات، وما إلى ذلك.
وإذا قُرئت الجوائز المخصّصة للعلوم في "نوبل" 2018، يتضّح أنها كرّمت جهوداً في صنع الأفق المطلوب لتحقيق الثورة الرابعة، خصوصاً في مجال الفيزياء. إذ ذهبت الجائزة إلى الأميركي آرثر آشكين، والفرنسي جيرار، والكندية دونا ستريكلاند، تكريماً لانجازات مكّنت من صنع ملاقط مكوّنة من أشعة الليزر، وهي فائقة الدقّة إلى حدّ أنها تستطيع التقاط الذرّات  Atoms والجزيئات Molecules. لنتأمل قليلاً. تخيّل أن هناك يداً أصابعها برهافة شعاع ضوء واحد، تستطيع أن تلتقط ذرّة واحدة أو جزيئاً واحداً، في اشارة الى مواد توجد على شكل جزيئات تتكون من مجموعة صغيرة جداً من الذرّات، كالهيدروجين المكون من ذرتين H2. 

وغاب عن معظم الإعلام العربي القول أن تلك الإنجازات تأتي في مجال تحقيق البداية الفعلية للنانوتكنولوجيا، وهو علم يشتق إسمه من النانو الذي يساوي جزءاً من بليون من الشيء، فيكون النانومتر جزءاً من بليون من متر، والنانوثانية جزءاً من بليون من الثانية...الخ.

وفي التفاصيل العميقة للنانو، أن الثورة التي يحاول إنجازها إنما تتمثل في تحقيق قدرات علميّة وتقنية تكفل التحكّم المباشر بالمادة على مستوى الذرّة والجزيء. ويقصد بذلك أن المواد كلها تتألف من مواد وذرّات، وإذا أمكن التحكّم بها كليّاً على ذلك المستوى، يصبح ممكنا التحكّم في تراكيب المواد، وتالياً في مواصفاتها، بصورة تفوق الخيال. من المستطاع استخدام ذرّات البورسلان مثلاً، ورصفها ذرّة ذرّة فتصنع مادة نانويّة تكون بخفة البورسلان وبمتانة تفوق أقوى أنواع الفولاذ. ومن المستطاع تفكيك خردة المعادن لصنع كل أنواع المواد المعدنيّة وصولاً إلى هياكل السيارات والطائرات ومركبات الفضاء! 

ومن دون المضي في التفاصيل الثقيلة، لا تتحقّق الثورة الصناعيّة للنانوتكنولوجيا، إلا بالتحكم المباشر بالذرة المفردة والجزيء المفرد. وفازت بـ"نوبل" الفيزياء، انجازات مكّنت من التقاط الذرّة والجزيء بصورة مباشرة، بواسطة ملاقط صُنعِتْ من أرهف ما يمكن التفكير به: الضوء وتحديداً ضوء الليزر.

الأهم أن ملاقط الليزر تستطيع الامساك بالذرّة والجزيء في المواد كلها، سواء أكانت مادة جامدة أو حيّة. ومنذ أواسط الستينات في القرن العشرين، تحدث علماء النانو، خصوصاً الأميركي آريك دريكسلر الذي يعتبر من مؤسّسي ذلك العلم، عن آلات تستطيع الإمساك بالذرة والجزيء لتصنع مواد بأي مواصفات كانت! وكذلك فكروا بآلات تستطيع الإمساك بالخلية الحيّة الواحدة، ثم التحكّم بها، ومن دون ان تحطمها أو تميتها.

وتستطيع ملاقط الليزر الإمساك بالخلية وبكائنات بحجم الخلية، ما يفتح الباب أمام "التقاط" تركيب معين في الجينات يكون متصل بمرض ما، أو "التقاط" خلايا سرطانية واستخراجها من بين خلايا أنسجة الجسم وما إلى ذلك.
فهل كثير القول بأن تلك الإنجازات هي "تحقيق حلم قديم للخيال العلمي"؟ 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024