الطائفة الشيعية في أضعف صورها

نذير رضا

الإثنين 2019/11/25
تكفي واقعة "الرينغ" لإثبات التأزم الذي تعانيه الطائفة الشيعية، وضيق خياراتها السياسية إثر التحركات الاحتجاجية التي ضاعفت هواجس الشيعة وممثليهم في المشهد السياسي، فتعاملوا مع التطورات بالعزلة حيناً، وبمنطق القوة الذي ظهر في أضعف صوره مساء الأحد، منذ تحرير جنوب لبنان في العام 2000. 

اعتاد "حزب الله"، خلال الفترة الماضية، على الإيحاء الاعلامي أو الميداني بقوته سبيلاً لتخويف الآخر، في لبنان وخارجه. قاده الانغلاق السياسي في الداخل الى استخدام جزء من فائض القوة في 7 أيار 2008، كما قادته معادلات الردع لاستخدام جزء منها في الرد على الهجمات الاسرائيلية خلال السنوات الستة الاخيرة، فيما قادته معادلات الاقليم الى استخدام هذه القوة في المعارك السورية. وبنى على تلك القوة لتوجيه رسائل الى الخارج والداخل، فأنزل القمصان السود في العام 2011، وحرك الشارع مراراً، فحصل على تنازلات من الافرقاء في الداخل درءاً لمواجهة غير متكافئة مع الحزب الذي تنامت قوته. 

لكن هذه الصورة، كحزب ومنظومة عسكرية متمتعة بصورة "القوي" القادر على تغيير معادلات سياسية بفائض قوته، انكسرت على جسر الرينغ ليل الأحد. للمرة الأولى في تاريخ "حزب الله" الحديث، يواجه مناصروه قوة شعبية تزايدت على الطرف المقابل من جسر الرينغ طمعاً بمواجهة معهم. لم يرتدع هؤلاء المتظاهرون، وحافظوا على هتافهم "ثورة ثورة" و"سلمية سلمية" طوال أربع ساعات من مواجهة منعها الجيش اللبناني والقوى الأمنية، إلى أن خفتت حدة الحناجر، وتفرّق أنصار الطائفة الشيعية بعد الفشل بترهيب الشارع المقابل. وهذا كله، ظل منقولاً على هواء البث المباشر، معظم الوقت، فرآه اللبنانيون جميعاً في وقته، وتابعوه تفصيلاً بتفصيل، ليشكلوا في أذهانهم صورة تلفزيونية بديلة من تلك حيث يقوم "حزب الله" وأنصاره بالضرب، ويكون الثوار مجرد متلقين.

سيتيقّن الحزب أن مجرد حضوره، كما في السابق، لا يفيد. صورته كقوة قادرة على ترهيب المتظاهرين بمجرد تواجدها في الساحات، سقطت، خلافاً للصورة السابقة على جسر الرينغ نفسه حين انكفأ المتظاهرون لدى وصول الشبان الشيعة الى المحلة. هذه المرة، كبر الشارع مقابل أنصار الحزب، ولم يتفرّق. الهتاف بالهتاف، والحجر بالحجر، والشتيمة تقابل بشعار "ثورة". 

والحزب المتأزم سياسياً، تأزم أمس ميدانياً. فمعادلاته السابقة لحصد تنازلات، تمت مقاومتها، ولن يكون بوسعه كسر حالة الجمود الا باستخدام سلاح لا يُتوقع بأنه سيستخدمه مرة جديدة بعد أحداث 7 أيار وتداعياتها، على الاقل في الأيام والأسابيع المقبلة، بالنظر الى ان استخدامه سيعُدّ انتحاراً سياسياً. 

والحال ان هذا الانكسار بالصورة، ليس الوحيد الذي تمخّض عن واقعة الرينغ. فصورة عناصر الجيش اللبناني الذين يديرون ظهورهم للمتظاهرين، والتي تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي ملصقاً عنها، شعاره "الجيش بيعرف لمين يبرم ظهره"، ضمن هاشتاغ #لبنان_ينتفض و#لبنان_يثور، هذه الصورة كافية للقول ان أنصار الثنائي الشيعي، ليسوا في مواجهة شركاء آخرين في الوطن فحسب، فهم بمواجهة الدولة وأجهزة حفظ النظام. وعليه، فإن الرهان على الدولة الذي أبداه الشيعة، تبدل، على الأقل بصرياً. ولم توحِ الواقعة بأن الشيعة هم من أنصار الدولة، بقدر ما باتوا في مواجهتها، ولو كانت أحزابهم تسيطر على جزء منها، ومع حلفائها تسيطر على معظمها. 

على أن الأزمة الأخيرة، لجهة انكسار صورة القوة، تمثل جزءاً من انكسار الطائفة، وهشاشة قدرة المواجهة لديها، وضعف خياراتها السياسية، سواء ضد الآخر المختلف معهم سياسياً، أو بمواجهة داعمين دوليين لتحركات سلمية يُراد منها التغيير في البلاد. وحتى بمواجهة من يتهمهم الحزب بأنهم يتدخلون ويقفون وراء التحركات "لاستهداف المقاومة"، وهو ما يعبّر عنه مسؤولو "حزب الله" في إشارة الى الولايات المتحدة الأميركية. 

فالطائفة التي تقطع بث قناة تلفزيونية في مناطقها، أي تلفزيون "الجديد"، تهرب الى الامام. والطائفة التي تتهيّب وصول "بوسطة الثورة" الى الجنوب، تلوذ بعزلتها حتى لو كان الدافع وراء منع وصولها هو الخوف من "طابور خامس" يتعرّض لها، كما قيل في مواقع التواصل الأسبوع الماضي. والطائفة التي تخاف التغيير، هي ضعيفة، لا تشبه صورتها السابقة. 

والضعف، يُقرأ في التعامل مع الأزمة الحالية. لم يكن متوقعاً من طائفة مؤسِّسة للكيان، تشارك كقوة سياسية مؤثرة في التحولات وخيارات الدولة، أن تقزّم التحديات الاقتصادية والسياسية الى مستوى اعلان النصر في مواجهة مع ديما صادق.. وسرقة هاتفها. ولم يكن متوقعاً أن تتحول هذه الطائفة المؤّسِسة، الى مستوى التقوقع، ومواجهة التغييرات المحتملة باللوذ الى الاصطفاف الطائفي. 

فمن الهشاشة تذليل الخطاب الشعاراتي الى مستوى هتاف "شيعة.. شيعة". هو انكسار يكشف ضمناً عن تضعضع خطابها السياسي، وتخبّط القدرة على المواجهة السياسية، كتتمة لانعدام الخيارات إثر الأزمة. فالشيعة لم يكونوا يوماً بهذا القدر من الضعف، وازداد هذا الاعتقاد بفقدان القدرة على استخدام قوة الشارع الذي ظهر أمس لتحقيق مكاسب وتنازلات من الآخر. ولا سبيل لترميم هذا الانكسار، إلا بإعادة انتاج خطاب سياسي يخرج الطائفة من تقوقع مذهبي تنزلق اليه، ومن الشارع و"وَهمِ القوة"، ويعيد الطائفة الى العباءة الوطنية. 

والحال، ان ضعف الطائفة ليس جديداً بالمطلق، ولو أنه كان يُستعاض عنه بقوة رديفة، ومؤقتة. ذلك ان الطائفة التي لا يُشركها الدستور في السلطة التنفيذية، فرضت شروطها بأعراف خارج النص عبر قوتين مؤقتتين: شخصية رئيس مجلس النواب، نبيه بري، الذي يُعدّ واحداً من أركان نظام ما بعد الطائف، وعلاقاته مع الشركاء في الحكم. والثانية، تتمثل في قوة "حزب الله". ولم تفلح القوتان في الحفاظ على الستاتيكو عندما هبت رياح التغيير، مرة في نوفمبر 2006 إثر استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وبقائهم خارج الحكومة، عاماً وسبعة أشهر. ومرة أخرى، حين فشلوا في الحكم في مرحلة 2011 وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، قبل أن يُرمّم حضور الطائفة في الشراكات السياسية التي تلتها.

اختبر الشيعة وخياراتهم السياسية الانكسار السياسي مرتين. أما الآن، فيختبرون انكسار جزء من القوة التي توفر حضورهم في المشهد، إثر سقوط وَهمِ القوة. تبدو الطائفة الآن في أضعف صورها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024