حافظ خالد في معابد جوبر

نور عويتي

السبت 2018/10/06
كنت في السابعة من عمري عندما توفي حافظ الأسد. أستيقظت صباحاً لأرى أمي تجلس باكية أمام شاشة التلفاز التي تُبث آيات القرآن يتلوها شيخ يغمغم بالبكاء بين الحين والآخر. ركضت إلى حضنها متسائلة عن سبب بكائها، خائفة بأن يكون سبب بكائها هو وفاة أبي او جدتي.
سألتها: "ماما مين مات؟" فأجابتني بأن المتوفي هو رئيسنا، اطمأن قلبي الصغير وعدت إلى فراشي وأكملت نومي.

يومها لم يستطع أبي العودة إلى المنزل، كان مناوباً في عمله على طريق المطار، فالمواصلات قُطعت وأغلقت المحلات، ولم يستطع أبي العودة إلى المنزل إلا بعد ثلاثة أيام، إذ استطاع أحد أصدقائه في العمل الحصول على توصيلة بسيارة أمنية. 

يوم مات "القائد الخالد" فُرض الحزن على الشعب بأكمله، صغاراً وكباراً. أغلقت المحلات وساد نوع من حظر التجول، وفُرض اللون الأسودعلى الجميع، وانتشر الأمن في كل مكان.

أذكر في اليوم التالي لموته أن الخبز نفد لدينا، فأجرت أمي اتصالاتها الهاتفية بجيرانها، فأخبروها بأن هناك بقالية في الحي المجاور، تفتح من الساعة الثالثة بعد منتصف الليل حتى الخامسة صباحاً. يومها خافت أختي الكبيرة على أمي، ومنعتها من المغادرة وحدها، وبعد ساعات طويلة من الجدل، ترافقنا نحن الثلاث بتلك الرحلة. ارتدت أمي واختي ملابس سوداء اللون، أما أنا فلم يكن لدي حينها ملابس سوداء. وعندما وصلنا إلى الحي المجاور، وجدنا دكاناً لم يُرفع سوى ربع بابه، فاضطر أهلي للانحناء لحظة الدخول، وفور دخولنا سمعنا رسالة البائع التحذيرية: "يا أختي إذا حدى شافك بالطريق ومعك أغراض وسألك من وين، دليه على غير مكان، الله يوفقك، الشغلة فيها خربان بيوت".

اشترت أمي كميات هائلة من الخضروات والأغذية، وفي طريق عودتنا شعرتُ بيد غربية تمسك كتفي الصغير، فالتفتُّ لأرى رجلاً ضخماً اكتسى باللون الأسود، يصرخ بأمي: "تاني مرة بتلبسيها أسود"، ودفعني بقوة إلى الأمام. انتظرنا إلى أن غاب عن نظرنا، وركضنا مسرعين إلى البيت. 

طالت أيام الحداد، وازداد شعوري بالخوف والملل. لم يكن يدخل إلى منزلنا في تلك الأيام سوى جاراتنا، اللواتي كن يجلسن مع أمي ويتبادلن الأحاديث همساً، كنت أحاول أن أسترق السمع، وكانت أكثر جملة يرددونها: "وطوا صواتكن الحيطان إلها أدان". 

أما أغرب رواية سمعتها حينها، فهي الرواية التي سردتها جارتنا أم وحيد، التي أكدت بأن حافظ الأسد لم يمت، ومن المستحيل أن يموت بهذه البساطة، وادعت بأنها علمت من مصادرها الخاصة أن الأسد تلقى العديد من التهديدات، فزوّر موته، وهو الآن مختبئ في قصر تحت الأرض في اللاذقية!

صوّروا لي حافظ كإله يوناني لا يموت. وعندما عدنا إلى المدرسة، كنا نردد شعار خلوده، ونتحاشى الحديث عن موته. أضافوا شعاراً حينها: "عاش القائد الخالد حافظ الأسد، وعاش ابنه بشار الأسد". كانت صورته بالحجم الكبير تتوسط جدران الصف، وتتصدر أغلفة الدفاتر المدرسية ومطبوعة على الشهادات، وكانت تماثليه في الساحات الرئيسية للمدينة. كانت المدينة أشبه بمعبد له.

فيما بعد، أدركت أن كل إله يفرض عقابه على رافضيه والخارجين على أوامره. ففي إحدى المرات سمعت حواراً دار بين أصدقاء أبي، حيث روى أحدهم رواية عن شاب سبّ حافظ الأسد في العلن، فاختفى في اليوم التالي من دون أثر، وعندما علم اهله أنه توفي، طالبوا بجثمانه، فقيل لهم أنهم وضعوا ابنهم في "بانيو" يملأه الأسيد، ولم يتبقَ منه اي شيء، حتى عظامه ذابت بالأسيد! 

لا يقل هذا العقاب وحشية، عن أسوأ تخيلاتنا لعذابات يوم القيامة، حيث يعاقب الرب الكفار بأقصى عوالم الرعب، نار جهنم؛ حيث يُحرق الكفار مرة تلو أخرى، بعذاب لا نهاية له.
عندما بدأت الثورة وشاهدت فيديوهات توثق لحظات تحطيم تمثال القائد الخالد، تحطم الخوف بداخلي، وكأني كنت أسيرة لذلك المعبد. شعرت حينها أن القائد الخالد قد مات أخيراً، وأن المعابد السرية الواقعة في أقبية السجون تكفل الأسيد بحرقها. ابتسمت وأنا أردد بداخلي كلمة "الحرية". كنت أبحث عن فرصة للكفر بديانة الأسد وعبوديته المبنية على الخوف.

لكن خوفي عاد من جديد عندما شاهدت صوراً لمنحوتات الأسد الأب في أنفاق جوبر. كأني شعرت بيد عنصر المخابرات تلمس كتفي من جديد. نحت النظام السوري صوراً لحافظ الأسد وانتصارته على الصخر في أنفاق تحت الأرض، على الطريقة البدائية التي استعملها الإنسان الحجري في تدوين التاريخ، ليضمن خلودها وإعادة اكتشافها في أي ظرف يحل على سوريا في المستقبل، سواء كان كارثة طبيعية، أو تمرداً شعبياً، أو حتى قنبلة نووية.. التفتّ ورائي، ولا يد تلمس كتفي. وأدركتُ كم أني لا أتمنى لحافظ الأسد الخلود، ولو اختبأ فعلاً في ذلك "القصر" تحت الأرض في جوبر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024