الحرب الأهلية الصغيرة.. الضحايا هم أنفسهم

المدن - ميديا

الخميس 2021/10/14
كان المشهد اليوم في الشارع الرئيسي لفرن الشباك، مؤلماً. عائلة تهرع بعيداً من مناطق الاشتباكات، نساء يحملن متاعاً جمعنها على عجل، ورجل يحمل بين يديه طفلاً حافياً.

الخوف باد على وجوه الجميع، وأزيز رصاص لا يتوقف، يتخلله بين حين وآخر صوت انفجار لقذيفة "آر بي جي". الجميع كان يعلم أن مظاهرة ستمرّ في المنطقة، يتخللها ربما قطع طرق، تحطيم سيارات، إشعال إطارات واشتباكات بالحجارة مع القوى الأمنية... لكن أن يتحول الأمر إلى حرب أهلية مصغرة تعيد للبنانيين ما قالوه عنها دائماً "تنذكر ما تنعاد"، فهذا ما لم يكن في الحسبان.


ماري التي تبلغ من العمر ثمانين عاماً، تقف أمام شقتها في فرن الشباك، تطعم الهررة، أقول لها: "يجدر بك البقاء في البيت، قد تصيبك رصاصة طائشة"، فتقول لي: "لم يبق من العمر أكثر مما راح"، وتنفجر قذيفة قبل أن تكمل جُملتها، فتهرع إلى الداخل خائفة.

ضجت مواقع التواصل بصور اللبنانيين والأطفال الذي دفعوا اليوم ثمن تهور رجال السياسة وحساباتهم الضيقة. في مدرسة "الفرير" في فرن الشباك، اختبأ الطلاب تحت الطاولات وتجمعوا في الممر بين الصفوف، خوفاً من أن تطاولهم رصاصة طائشة. مشهد شبيه بما عاشه الجنوبيون، سكان القرى المحاذية لفلسطين المحتلة، أثناء القصف الاسرائيلي المستمر.. شبيه أيضاً بما عاشه اللبنانيون في سائر المناطق طوال 15 عاماً من الحرب الأهلية. هو مشهد يتكرر ليقول لهم "لا تكرروها"، لكن من يسمع؟

تتكرر عبارة "تنذكر وما تنعاد" مع كل مجموعة من التغريدات المنتشرة في مواقع التواصل، حتى تكاد تصبح مثيرة للسخرية. الجميع يقولها، لكنهم يملكون ذلك الإصرار الغريب على تكرارها وإخراجها بصورة جديدة، مختلفة عما سبقها، لكن الجوهر يبقى هو نفسه. جوهر أن هناك من نجا بفعلته في المرة السابقة، وهو يعيد جريمته كل يوم بحق الجميع، يعيد تعبئة الدماء لبيعها في المزاد لمن يدفع السعر الأعلى من دون أن يُحاسَب. على هامش تجارته هذه، هناك صراخ ودموع وموت. ربما هنا تكمن المشكلة: المحاسبة، القضاء، النجاة من العقاب،... لذلك لا شيء يتغير.


السؤال الأهم الذي يطرحه الجميع، والذي تجده في كل تحليل، في كل تغريدة ساخرة أو حزينة، هو: لماذا؟ لماذا يحصل ذلك كله؟ لماذا يقف البعض مع الحرب، يشجع المتحاربين، يقول لهم كما ظهر في أحد الفيديوهات "الله يحميكن"؟! إلى متى يريد هؤلاء أن يستمر أزيز الرصاص، ولماذا؟ ثم يصبح كل شيء غير ذي معنى، مجرد ديستوبيا كوميدية ستستمر في تكرار نفسها إلى الأبد، ولا حل معها سوى التسليم، وربما الضحك الباكي.

على هامش الحرب الأهلية الصغيرة للمليشيات والأحزاب الطائفية، كان المهرب الوحيد للخائفين، هو الجيش اللبناني والدفاع المدني، الذي عمل على مساعدة الهربين لبلوغ المناطق الآمنة، فانتشرت في مواقع التواصل صور الجنود يحملون الأطفال بعيداً من القصف، وصور أفراد من الدفاع المدني يقدمون بعض الأمان للخائفين على مصيرهم.

Posted by Jana Houeiss on Thursday, October 14, 2021
اليوم استعاد لبنان صورة حاول مواطنوه، أو جزء كبير منهم، نسيانها، أو تناسيها. صورة سيطرة المسلحين على الشوارع. صور الرعب، وصور الهاربين من جحيم الموت.. المقارنة بين اليوم والأمس، بين حرب وحرب، غزت مواقع التواصل، وأعطت الكثيرين دافعاً لمغادرة سفينة تغرق على أول قارب نجاة متاح، فلا الأرض بعد اليوم أرضهم، ولا السماء سماؤهم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024