وطن ترتقه نساؤه

زينب عساف

الجمعة 2019/12/06
يحضر الوجه النسائي في هذه الثورة بكل صفاته. تخرج النساء اللبنانيات عن الصور كافة التي نمّطتهن طويلاً. من صور المرأة المشتهاة الدلوعة، التي روّجت لها وسائل الإعلام وتلقّفها العالم العربي المكبوت، إلى صورة أمّ الشهيد الملتحفة بالسواد "أجمل الأمهات"، إلى المرأة "المبسوطة" بخطاب الميليشيات الديكتاتوري القِطاعي بكسر القاف.

وبما أن الزمن زمن ثورة، عنوانه العريض هو الإصلاح السياسي والاقتصادي وتغيير الطبقة السياسية قاطبةً (كلّن يعني كلّن)، لا بدّ من تفحّص الخطابات الفرعية الأخرى ودلالاتها، وكذلك رصد الأفعال وردودها، لا سيما بالنسبة للمرأة، كمؤشر للتغيير في المجتمعات الحديثة. واستخدام المرأة اللبنانية كنموذج لا يقلل من أهمية ما قامت به نساء الربيع العربي الأخريات في مصر والسودان وغيرهما، وما تقوم به المرأة العراقية اليوم من كسر تدريجي للاحتكار الذكوري للمساحة العامّة.

في وصفه لمسيرة أمهات وسيدات الرينغ نحو الخندق الغميق، في "المدن"، يطلق محمد أبي سمرا صفة "ملوّنات" على هؤلاء النسوة السائرات في موكب الزغاريد والفرح، كما في عرس قروي، في مقابل رجال عابسين بالأسود، ونساء حبيسات شرفاتهن ينتظرن بشوق مرور الموكب الذي ينحزن لاشعورياً نحوه أكثر من رجال القبيلة حرّاس الفضيلة المزعومة.

"ملوّنات".. أتوقف قليلاً عند هذا الوصف، وتعود إلى ذهني صورة نساء حركة الحقوق المدنية للسود في أميركا، اللواتي أطلق عليهن مجتمع الرجل الأبيض الصفة نفسها. وأفكّر أن النساء ملوّنات، ليس بما يلبسن أو بسبب لون بشرتهن، بل بما يحملنه من احتمالات أخرى إلى عالم الذكورة الأبيض والأسود. بما يحملنه من ضحكات عفوية إلى عالم الديكتاتورية الذي لا يتسامح مع السخرية، بحسب ميلان كونديرا.

والحديث عن الألوان يجرّني إلى أعلام قوس قزح، التي يعتنقها دعاة الحقوق الجنسية  LGBTQ وأفكّر قليلاً بأن الخطاب النسوي لم يتبنَّ بالضرورة خطابهم، وهناك نسويات كثيرات يرفضن تماماً هذا المزج، لكن غالباً ما يتمّ الجمع بين حزمة من المطالب في عالمنا المعاصر، كما لو أن المواجهة مرة أخرى هي بين الأبيض والأسود، وحتميّة الحرب من جهة، والألوان بما تحمله من بهجة وشبه ميوعة وأحياناً طفولة من جهة أخرى.

النساء حبيسات الشرفات يزغردن وينثرن الأرزّ على شقيقاتهن الطليقات. هل من مشهد أكثر دلالة على ما آلت إليه أحوال طائفة كانت بناتها أول من كسرن الاحتكار الذكوري منذ زينب فياض وليلى بعلبكي.. وحتى ديما صادق التي تعرّضت لحملة تأديبية وتشهيرية من مطاوعة حرّاس الزعيم، الأب الرمزي لطائفته أو للوطن بأسره كما في حالة رئيس الجمهورية الغارق في عالم هلوساته العائدة إلى مرحلة الحرب الأهلية؟

بالصدفة شاهدت فيلم "سيلفيو والآخرون"، الذي يقدّم فكرة عن عالم رئيس الوزراء الإيطالي اليميني، الحالم بزمن الفاشية سيلفيو برلوسكوني. هنا تحضر المرأة، لا كملتحفة بالسواد ممحيّة الجسد، بل عارضةً له كأداة للمتعة القصوى في "حرملك" الزعيم الممتدّ من سردينيا حتى روما. اليمين الذي يغزو الطبقات الشعبية في الغرب اليوم (هنا أعمّم لأن الظاهرة منتشرة في أوروبا الغربية وشمال أميركا) يحلم بعودة مجد الذكورة -الرجل الأبيض- الوطن القومي الضائع. وما الهجوم على النساء وحقّهن في الإجهاض، سوى مؤشر على رغبة في العودة إلى النظام الأبوي الذي زعزعت أسسه ثورات الستينيات والسبعينيات ذات الألوان اليسارية.

عالم الأبيض والأسود مقابل عالم الألوان؟ لا يجب أن نشيطن الأبيض والأسود تماماً، وفي كل حالاته، ولا يجب أن نغرق في الألوان التي تسعى الشركات المونوبولية إلى جعلها باهتة ومنحصرة في مظاهر الصواب السياسي Political Correctness الخرقاء. الأكيد أن هذا العالم يتسعّ للألوان كلها، بما فيها الأبيض والأسود، والخطاب الأبوي الإستعلائي حين ينزل من شرفاته ليلاقي نساء بلادي الثائرات المبتهجات. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024