"السترات الصفر" متهمون بمعاداة السامية

حسن مراد

السبت 2019/02/23
رغم مرور 74 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية وما تخللها من فظائع إنسانية كان اليهود إحدى ضحاياها، ما زال هذا التاريخ يرخي بثقله على كاهل الدولة والرأي العام الفرنسي. فكل اعتداء يستهدف رموزاً يهودية أو أفراداً ينتمون الى هذه الديانة، سرعان ما يتحول إلى قضية رأي عام لا سيما أن القانون الفرنسي يحظر معاداة السامية أياً تكن مظاهرها (تمييز في المعاملة، اعتداء ضد أفراد أو رموز، إنكار المحرقة ...) لتصل عقوبتها القصوى إلى السجن لمدة خمس سنوات وغرامة قدرها 75000 يورو. 

وما يفسر حساسية فرنسا حيال هذه المسألة أن ما تعرض له اليهود الفرنسيون آنذاك ما كان ليتم لولا تواطؤ السلطات آنذاك، أي حكومة فيشي، في ترحيلهم، ما يشير إلى عقدة ذنب لا زالت تحملها فرنسا. 

منذ أيام والبلاد تعيش حالة من الغليان السياسي والإعلامي والشعبي عنوانها "مناهضة معاداة السامية"، لكن من الواضح أن المسار الذي سلكته الأمور، يشير الى انه لن يؤدي بالضرورة إلى الإجماع المرجو. 

فقد تداعت الأحزاب الفرنسية إلى تجمع شعبي رفضاً لكل أشكال معاداة السامية بعد ازدياد الاعتداءات المصنفة في هذه الخانة كرسم شعار النازية في مقبرة يهودية ومن قبلها على صور لسيمون فاي. 

لكن الحدث الأبرز في هذا السياق جرى على هامش المظاهرة الأسبوعية لحركة السترات الصفراء السبت الماضي، إذ نشر موقع Yahoo فيديو لمتظاهرين وهم يشتمون الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكراوت، اليهودي الديانة وذو الميول الصهيونية، بعدما صودف مروره بالقرب من مكان تجمعهم، شتائم من قبيل: "ارحل أيها الصهيوني"، "عنصري قذر"، "عد ادراجك إلى إسرائيل". وعلى أثره أعلنت النيابة العامة في باريس الأحد أنها فتحت تحقيقاً بشأن إهانات معادية للسامية تعرض لها فينكلكراوت. 

وأدى انتشار الفيديو كالنار في الهشيم إلى ردود متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي: بينما سارع مغردون كثر إلى إدانة ما تعرض له فينكلكراوت واصفاً بعضهم المعتدين عليه
بالاسلامو-يساريين، كان لآخرين موقف مغاير. أعاد هؤلاء التذكير بمواقف وتصريحات سابقة للفيلسوف الفرنسي لا سيما تلك التي تعرض خلالها لأطفال غزة أو التي اعتبر فيها فرنسا بلدا يستحق الكراهية. رسالتهم بدت شديدة الوضوح: آلان فينكلكراوت لا يمثل قيم التسامح وتقبل الآخر التي يرفعها المتضامنين معه.

فرض هذا الحادث نفسه بقوة على الصحف الفرنسية التي استفاضت في تناوله من جوانب عدة، لكن أكثر ما استحوذ على اهتمامها أن هذا الفيديو طرح اشكالية شديدة الحساسية على المستويين السياسي والشعبي: هل يندرج هذا الحادث في خانة معاداة السامية لمجرد نعت فينكلكراوت بالصهيوني؟ بمعنى آخر هل انطوى هذا الحادث على عدائية تجاه الديانة اليهودية رغم أن أحدا من المتظاهرين لم يتلفظ بأي عبارة من هذا القبيل؟

بدا واضحاً حذر الصحف في معالجة هذه المسألة، فمن خلال إجراء مقابلات مع أكاديميين ومؤرخين، حرصت جميعها على التمييز بين معاداة السامية كفعل عنصري ومناهضة الصهيونية كموقف سياسي. إلا أن الصحف نفسها تساءلت هل باتت مناهضة الصهيونية قناعاً لمعاداة السامية؟ وفي هذا السياق ذكرت جميع الصحف بالفنان الساخر Dieudonné الذي استبدل عبارة في أعماله عبارة اليهودي بالصهيوني تفادياً للملاحقة القضائية. 

لكن ما صب الزيت على النار إعلان النائب سيلفان مايار عزمه طرح مشروع قانون لتجريم مناهضة الصهيونية كشكل من أشكال معاداة السامية. 

رغم الاجماع الرسمي على التضامن مع فينكلكراوت والمندد بكل الاعتداءات، إلا أن مشروع مايار لم يلقى الترحيب المنتظر. الموقف الأبرز في هذا الصدد كان لرئيس الجمعية الوطنية الذي أعلن أن "الترسانة التشريعية" الحالية تسمح تماماً بمكافحة معاداة السامية. 

لكن المشهد السياسي انقلب يوم الأربعاء بعد كلمة ايمانويل ماكرون خلال حفل العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا. 

فبعدما أبدى ماكرون معارضته لهذا القانون في وقت سابق، عاد واعتبر في خطابه يوم أمس أن مناهضة الصهيونية شكل حديث من أشكال معاداة السامية، مضيفاً أن هذا المفهوم الجديد سيُعتمد في التشريعات الفرنسية ما يعطي، بالضرورة، مشروع مايار زخماً هاماً. 

كما شدد ماكرون في خطابه على ضرورة الحد من انتشار خطاب الكراهية على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي. وأشادت الصحف بأهمية هذه المبادرة نظرا لعدم تكيف التشريعات الفرنسية مع الجهود المطلوبة، ففي مقابلة مع صحيفة Le Monde اعتبرت النائبة ليتيسيا آفيا أن القوانين المرعية في هذا السياق تعود للعام 2004 أي قبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في فرنسا ما يحتم تطوير القوانين، وعليه ستبادر إلى التقدم بمشروع قانون في أيار المقبل. 

والجدير بالذكر أن زيارة ماكرون للمقبرة اليهودية أثارت ضجة الكترونية. فخلال تغطية محطة France3 لتلك الزيارة من خلال بث مباشر عبر الفايسبوك، وجد القيمون على الصفحة الرسمية للمحطة أنفسهم أمام كم هائل من التعليقات المحرضة ما دفعهم لقطع البث وحذف الفيديو والاعلان عن حظر التعليقات خلال أي بث مباشر في المستقبل.

انتشار فيديو الاعتداء اللفظي على آلان فينكلكراوت، دفع بالصحف بداية الأمر إلى تناوله من زاوية التساؤل عما إذا كانت حركة السترات الصفر تخفي وجهاً آخر غير وجهها المطلبي. 

لكن الأمور سرعان ما سلكت مساراً بات معه النقاش حول ماهية الحركة ثانوياً: فانطلاقاً من ضرورة التمييز بين معاداة السامية ومناهضة الصهيونية، تبدي شريحة سياسية خشيتها من أن تؤدي مشاريع القوانين هذه، لاسيما مقترح سيلفان مايار، إلى خلط المفاهيم فتتلاشى الحدود الفاصلة بين معارضة السياسات الإسرائيلية ومحاربة العنصرية ليتحول القانون إلى أداة لتقييد حرية الرأي والتعبير. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024