ترامب ليس مخرجاً لانكسار أميركا في حروب الإنترنت

أحمد مغربي

الخميس 2017/04/20
في الوضع الراهن للإنترنت، أميركا هي الخاسر استراتيجياً في حروب الفضاء الافتراضي للإنترنت. المفارقة أن جزءاً كبيراً من ذلك الوضع المنكسر سببه هو القوّة المذهلة لأميركا في المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة! 


قد يكون ذلك تناقضاً، لكن واقع الحال هو أنّ الشركات الكبرى في المعلوماتيّة ومساراتها هي أميركيّة، وهي أيضاً في وضع دفاعي دائم، بمعنى أنّها مستهدفة باستمرار من قبل الدول الكبيرة المنافسة، خصوصاً الصين وروسيا، إضافة إلى ذلك "العالم السفلي" الواسع وشبه الخفي الذي يضم صُنّاع الفيروسات الإلكترونيّة، ومجموعات محترفة في اختراق المواقع وهي تسعى بدأب للحصول على أقصى ما تصل إليه يدها من بيانات، ينتمي "ويكيليكس" إلى تلك الفئة، ومجاميع الـ"هاكرز" التي تحرّكها دوافع شتى، وغيرها.

في تلك الصورة الفوّارة، يجدر التذكير بأنّ الأساس العميق لضعف أميركا وانكشافها في الحروب الافتراضيّة، هو أن الشركات الكبرى في الكومبيوتر والانترنت، لم تستطع حتى الآن تجاوز المحنة الكبرى المتمثّلة بحتميّة وجود ثغرات في برامجها كافة. ويرجع ذلك إلى أن البرامج والنظم الرقمية التي يصنعها عمالقة المعلوماتيّة والاتصالات في أميركا، لا تكتمل صناعتها إلا بعمل أيدي البشر وعقولهم بصورة مباشرة، ما يجعل الخطأ البشري عنصراً غير قابل للتجنّب فيها، وما يجعل الولايات المتحدة أضخم تجمع للثغرات الرقميّة عالميّاً! وهذا بالتحديد المصدر الرئيسي لضعف أميركا استراتيجيّاً في العوالم الرقميّة.

بقول آخر، تشبه ثغرات البرامج والتطبيقات والنُظُم كعب "إخيل": ذلك البطل الإسطوري الذي كان جسمه كلّه منيعاً ما عدا كعبه، وقتل عندما اخترق سهم تلك النقطة الضعيفة فيه.

قوّة الشركات وتأصّل ضعفها!
إذاً، لنحاول تأمّل المدى الواسع للنقطة المحوريّة التي تمثّلها حتميّة وجود ثغرات في ما تنتجه الشركات التقنيّة الأميركيّة الكبرى، وأنّها مداخل للضربات والفيروسات والتسللات والاختراقات وغيرها. لنفكر في ما ثبت عن انتشار الثغرات المحتّم في نظام التشغيل "ويندوز" (مايكروسوفت) والبرامج والتطبيقات التي تعمل استناداً عليه، وبرامج حماية الكومبيوتر التي تصنعها شركات متخصّصة (سيمانتك، نورتون...)، ونظام "ماك أو إس" (آبل) مع البرامج والتطيبقات التي تسانده، وشركات البحث على الانترنت كـ"ياهوو" و"غوغل"، كم مرّة سمعت عن اختراق تلك النظم والتطبيقات، بل حتى مواقع تلك الشركات كلّها؟ ألا يتكرّر ذلك باستمرار؟

الأسوأ أنّ هناك ما يسمّى "فترة حضانة" بين اختراق مواقع الشركات الأميركيّة الكبرى، وبين اكتشاف تلك الشركات أنها اخترقت ثم صنعها برامج وأدوات للسد الثغرات التي نفذت منها تلك الاختراقات. ففي أواخر 2016، كشفت "ياهوو" مثلاً، أنّ موقعها اخترق مع سرقة بليون حساب منه. ربما لم يتنّبه كثيرون إلى إعلان "ياهوو" أنّ الضربة نُفّذت قبل سنتين من اكتشافها! وقبل أيام قليلة، اختُرِقَت "ياهوو" مجدّداً، مع سرقة 500 مليون حساب. وليس الأمر استثناءً، بل يكفي لمن يرغب أن يتابع المسلسل الذي لا ينتهي من البيانات عن الاختراقات وسرقة المعلومات، بل أنّ "ويكيليكس" و"بنما ليكس" التي تضمّنت سرقة بلايين الملفات، ليسا سوى غيض من ذلك الفيض.

وحتى عندما تعلن الشركات الأميركيّة الكبرى أنها "حصينة"، يجدر التنبّه إلى ذلك. ففي 2016 أيضاً، أعلنت شركة "آبل" أنها حافظت على سريّة تشفير "آي فون" في مواجهة طلب رسمي من الـ"آف بي آي" التي أعلنت لاحقاً أنها كسرت تشفير "آي فون" واستغنت عن تعاون "آبل" في ذلك!

وقبل أيام، أعلنت "آبل" أيضاً أن "كلاود"، وهي سحابة معلوماتية تتكدس فيها بلايين البيانات، لم تخترق أخيراً. لكن البيان الصادر عن الشركة يصمت صمتاً مدويّاً عن مسألة "فترة الحضانة"، وكذلك "سها" عنه أنّ تلك السحابة اخترقت فعليّاً في 2015، وتسرّبت منها صور حميمة أحرجت مجموعة كبيرة من فنّانات هوليوود كليندسي لوهان وجنيفر لورانس وميلا كونيس وغيرها!

التجربة الصينيّة: محاولة أميركيّة للتوازن؟
تقدّم المعطيات السابقة عينة عن ضعف أميركا الاستراتيجي في حروب الإنترنت، خصوصاً عندما تستكمل بما هو معلن عن تكرار اختراق مجموعات عسكريّة مختصة في الجيش الصيني، لمواقع أميركيّة تشمل شركات المعلوماتية والصناعات بأنواعها ومشاريع الأسلحة المتقدّمة وغيرها. وفي حدث يصلح إعلاناً صريحاً عن الضعف الأميركي، توصّل الرئيس السابق باراك أوباما إلى اتفاق مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، على وقف الحرب الشبكية بين بلديهما عبر تشكيل مركز قيادة مشترك بينهما.

ولم يحصل شيء مماثل مع روسيا، على رغم شكوك واسعة بأنها اخترقت مواقع الحزبين الأميركيّين الرئيسيّن المُتداوِلين على السلطة في أميركا منذ عقود مديدة!

وأطلق الرئيس الشعبوي دونالد ترامب وعداً انتخابيّاً جازماً بأن يجعل الولايات المتحدة القوّة المتفوّقة الأولى في الفضاء الافتراضي للإنترنت، لكنه لم يفعل شيئاً لحد الآن، على رغم صلة ذلك الأمر بمسائل تمتد من علاقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا تنتهي عند وعده بالقضاء على "داعش" التي تمتلك ذراعاً قويّة تماماً في فضاء الإنترنت. وقبل أسبوع، أطلق توم بوسير، مستشار ترامب لشؤون الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب، وعداً بظهور أمر تنفيذي رئاسي يوضح استراتيجيّة ترامب في حروب الإنترنت، "خلال أسابيع قليلة مقبلة". وأشار إلى التركيز على حماية الشبكات الفيدراليّة، ومكافحة الشبكات السريّة لـ"العالم السفلي" للإنترنت، و"إلحاق الهزيمة بمناوئينا على الإنترنت" حسب تعبيره.

والحال أنه بالنظر للفشل الطويل الذي تعانيه أميركا منذ عقود في حروب الانترنت، يصبح ابتلاع وعد بوسير صعباً، رغم شيوع القول في المؤسّسة الأميركّية بالأهمية القصوى لخروج البلاد من ضعفها الاستراتيجي الشبكي. وفي وقت قريب تماماً من وعد بوسير، صرّح ريتشارد لِدجِت، نائب رئيس "وكالة الأمن القومي" الأميركيّة، أنّ تصحيح ذلك الضعف الاستراتيجي "يتطلّب إرادة الأمة الأميركيّة بأسرها"، مشيراً بوضوح إلى الدور الخاص الذي تمتلكه الشركات الأميركيّة الكبرى في المعلوماتية والاتصالات، في ذلك.

ومع حساسيّة فائضة بين تلك الشركات عينها وإدارة ترامب، خصوصاً بشأن قيوده على الهجرة التي تهدد بحرمان تلك الشركات من تدفّق عقول مهاجرة تمثّل تجدّداً حيويّاً فيها. مضافاً إليها موقف ترامب المعادي للعولمة، يصبح التعاون بين ترامب وتلك الشركات صعباً، فرغم عدم امتلاكها حلاًّ سحريّاً لمعضلة الثغرات، إلا أنها تعتبر نفسها جزءاً من العولمة، بل يعتمد عملها أساساً على استمرار التدفق المفتوح للبيانات والمعلومات والأعمال عبر الكرة الأرضيّة بأسرها. وعليه، ليس مرجحاً أن يتمكن ترامب وحده من إخراج أميركا من وضعيّة الخاسر استراتيجيّاً في موازين القوّة على الفضاء الافتراضي للانترنت، رغم الرطانة التي باتت مألوفة في وعوده وخطاباته.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024