"الأعدقاء": تفكك السوريين في بلاد اللجوء

وليد بركسية

الجمعة 2019/05/03
لا يمكن سوى الشعور بشيء من الحزن عند متابعة الحلقات الأولى من سلسلة "الأعدقاء" التي يقدمها الممثل السوري محمد أوسو عبر "يوتيوب" بعد انقطاعه سنوات عن العمل الفني. ولا يعود ذلك لجرعة مفترضة من الكوميديا السوداء التي تحاكي حياة السوريين في بلاد اللجوء، بل للظروف التي أدت لصناعة سلسلة مخيبة للآمال نسبياً، من طرف ممثل موهوب يحظى بشعبية واسعة رغم قلة أعماله الفنية.


تبدأ السلسلة التي ألّفها وأخرجها وأنتجها أوسو نفسه، بوصول شخصيتها الأساسية "نور عتمة" (أوسو) إلى الولايات المتحدة، مع قصة موازية تربط الشخصية بسوريا عبر علاقة غريبة وغير مفهومة مع الآنسة "شام سي" التي تتواصل مع البطل الساذج عبر الإنترنت. ومنذ اللحظة الأولى يدرك المشاهد أن البطل يعتبر لجوءه مرحلة مؤقتة، حيث تتمحور حياته بالكامل في اللجوء حول حياته القديمة وكل ما تركه خلفه من أصدقاء وأفراد عائلة وأحلام، في بلده الأصلي. وفيما لا يحاول العمل تقديم شخصياته كضحايا، إلا أنهم يظهرون أقرب لشخصيات مهزومة ومرهقة.


وتعطي السلسلة، حتى الآن، شعوراً فورياً بتعلّق نمطي بالماضي، على مستويات عديدة. فمن جهة، تظهر شخصيات السلسلة مشتتة بين واقعها في الولايات المتحدة وبين ماضيها في سوريا، في امتداد للتورط العاطفي بفكرة "الوطن" والانتماء لبقعة جغرافية ما، وعدم القدرة الفردية على تجاوز ظروف الحرب واللجوء في المجتمعات الجديدة الأكثر تطوراً وانفتاحاً. ومن جهة أخرى، يستجر أوسو نمطه الدرامي الذي صنع شهرته بين العامين 2005 و2007، عندما قدم شخصيات بسيطة ومضحكة ومهمشة وتتميز بشيء من السذاجة المحلية التي عكست في ذلك الوقت الانغلاق العام في دولة شمولية ومعزولة عن الكوكب، مثل سوريا الأسد.

هذا التعلق بالماضي، يحيل إلى تساؤل إن كان أوسو فقد القدرة على التطور كفنان بعد سنوات الاعتقال إثر الثورة السورية، ثم اللجوء والابتعاد عن الأضواء، أم أنه يحاول محاكاة ما يمثل له الأمان الشخصي بالعودة فنياً إلى نمط حقق له الشهرة والنجاح، ما يعكس بدوره صعوبات مفهومة تفرضها الحياة في بلاد غريبة بالنسبة للاجئين الذين يرتبط عملهم بالفن ومحاكاة المجتمع واللغة بشكل أساسي، كالممثلين والصحافيين والفنانين. علماً أن التساؤل الموازي حول هوية أوسو الفنية، في حال سارت الثورة السورية بشكل مختلف عن مسارها الحالي، أو في حال بقيت الأمور "مستقرة"، لن يوصل إلى جواب أبداً.

وهكذا، يعمد أوسو في عمله الجديد لاستجرار شخصيات قدمها سابقاً مثل "كسمو" في مسلسل "بكرا أحلى" و"سلطة" في "كسر الخواطر"، ويقدم بذلك مجدداً نمط المهرج المراقب الذي يعطي معنى للحياة من حوله عبر الكوميديا التي تصل حد الاستهزاء المؤلم. وقد لا يكون ذلك مشكلة بحد ذاته، في حال كانت السلسلة تحتوي زخماً في النص وشخصيات إضافية تحقق التوازن وتعطي معنى أكبر لسياق الأحداث، التي تبدو حتى الآن مفككة وغير منطقية أحياناً، وإن كان ذلك مفهوماً بالنظر للميزانية المحدودة التي صنع العمل بها كجهد فردي.


والحال أن تفكك القصة وعدم وجود إطار زمني محدد لأحداثها وحركة الكاميرا المضطربة، قد تكون تفاصيل مبررة وعبقرية ربما، في حال كان الفضاء الذي تحصل فيه الأحداث مجرد أفكار عامة تجول في رأس بطلها "نور عتمة"، حول تفاصيل حياته ومخططاته للحياة قبيل وصوله للمطار في الولايات المتحدة، أو حتى مجرد هواجس، تنتاب أي شخص يفكر باللجوء أو يجد نفسه جزءاً من تلك التجربة، حول معنى حياته التي تشهد تقلبات كبيرة. وبالتالي، فإن التفكك يوازي اللااستقرار الذي يغمر حياة كثير من السوريين، ما يحيل تلقائياً للشعور بالحزن. علماً أن ذلك، ليس واضحاً خلال الحلقتين اللتين عرضتا حتى الآن، وقد يمثل مجرد خلفية نظرية للعمل، وسيتحدد ذلك بلا شك مع نهاية الأحداث.

هذا النمط يشكل أساس أعمال فنية وأدبية شهيرة مثل رواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي، والتي كانت شديدة العمق في تناولها للتروما الناتجة عن الهجرة وتبدل الثقافات. وإن كانت سلسلة أوسو لا تبدو عميقة إلى ذلك الحد المبهر الذي يشرّح التبدلات الدينية والثقافية واللغوية، إلا أنها تعطي بعضاً من ذلك الشعور العام بتفكك الهوية. وتذكّر بالتالي بنوعية الحياة التي عاشها كثير من السوريين البسطاء في ظل حكم عائلة الأسد لسوريا، والتي عزلت سوريا ثقافياً عن بقية الكوكب.

ويجب القول أن الشخصيات التي قدمها أوسو في مسلسلاته القديمة كانت شديدة الصدق والبساطة والالتصاق بالواقع السوري وانحيازه للبسطاء، لدرجة تشبيهه بالممثل الشهير دريد لحام، بغض النظر عن انحياز الأخير للسلطة كما تجلى بوضوح بعد الثورة السورية. لكنه في السلسلة الجديدة يبدو ظلاً لذلك التاريخ فقط. وهو ما يمكن لوم نظام الأسد عليه بشكل أو بآخر، باعتباره الجهة التي اعتقلت أوسو إثر مشاركته في المظاهرات الشعبية ضده العام 2011 ومنعته من العمل، بسبب وقوفه مع الشعب السوري، إلى جانب أنه الجهة التي سيّست الفن ومنعت التفكير الحر والمستقل في البلاد طوال عقود.

في ضوء ذلك، قد يكون معنى "الأعدقاء"، ليس السوريين الذين يعادون ويساندون بعضهم ضمن علاقات معقدة في بلاد اللجوء، بقدر ما يشير ذلك إلى العلاقة الذاتية بين الفرد ونفسه، وتقبله للتبدلات في حياته وتشتته بين الحاضر والماضي، وبحثه عن هوية جديدة مع الحفاظ على كيانه في الوقت نفسه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024