حين نخشى بقاءنا مع أنفسنا

آية الراوي

الثلاثاء 2020/03/31
نحن في حالة حرب. هكذا خاطب رؤساء البلدان شعوبهم، معلنين حالة الطوارئ والتعبئة الكاملة لمواجهة الجائحة. يرى البعض في هذا الخطاب مبالغة وانغلاقاً شعبوياً ووطنياً، إذ أقفلت الدول حدودها وانتظمت ضمن قوقعات متأهّبة ومذعورة. بالنسبة إلى الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع، إدغار موران، قد نشعر بعبء كبير يشبه وطأة الاحتلال من قبل عدو خفي، وقد تكون حالة حرب، لكن لنا حصتنا من المسؤولية فيها، فنحن حلفاء هذا العدو، والعدو ليس الفيروس، إنما هو موجود فينا، في تدهور المستشفيات والعناية الصحية، في عدم الوقاية والتحضير، في السياسات المفروضة وفي منظومة الاستهلاك والإنتاج السائدة وفي التفاوت الاجتماعي.

يعتبر موران أن الأزمة ستُظهر لنا مشكلة العولمة كونها عبارة عن اعتماد متبادل أو تبعية متبادلة ولكن من دون تضامن. فقد أنتجت حركة العولمة بالتأكيد التوحيد التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تكرّس سمة التفاهم بين الشعوب. منذ بداية الظاهرة في التسعينات، احتدمت الحروب والأزمات المالية، وما تلاها من اختلال النظم البيئية وانتشار الأسلحة النووية والاقتصاد النيوليبرالي، ولّد نوعاً من وحدة المصير بين البشر، لكنهم لم يكونوا على علم بها. واليوم، يسلّط الفيروس الضوء وبطريقة فورية ومأسوية، على وحدة المصير هذه. لذلك يجب إعادة تحديد أولويات الدولة، مثل الاكتفاء الذاتي بتعزيز الزراعة وصناعة الأدوية، الاهتمام بالخدمات الاجتماعية والصحية، توزيع الثروات، حماية البيئة.

وبدوره، يقول بوريس سيرولنك، وهو عالم نفس وطبيب متخصص في علم الأعصاب والسلوكيات، أننا لسنا في حالة حرب، وإنما في حالة مقاومة، أو مجابهة، لأن العدو يستطيع أن يطاولنا، لكننا لا نطاوله، لا نراه، لا نفهمه ولا نستطيع مهاجمته. وتتلخص سبل المقاومة على الصعيد الفردي، بمحاور ثلاثة، فالخلاص يتمثل أولاً باللجوء إلى الفعل والعمل، ما استطعنا إليه سبيلاً. المحور الثاني هو التعلّق، التعلق بشخص، أكان قريباً أو بعيداً، فنحن بحاجة إلى الآخر، بحاجة إلى أن نحب وأن نكره وأن نتفاعل وإلا أصابنا الجنون، والتعلّق قد يعطينا شعوراً بالأمان والأمل ويساعدنا على خلق جسر ملموس مع الواقع. أما محور الخلاص الثالث، فهو الغوص في عالمنا الداخلي، عبر الكتابة والقراءة والموسيقى والتفكّر. ففي غياب الآخر، لا نستطيع النجاة إلا عبر التفاعل مع الآخر الفرضي من خلال الشعر والأدب والفلسفة وكل ما توفّر في عالم الأفكار والفن والخيال. وإذا قال سارتر أن الجحيم هم الآخرون، فربما في حالة الحجر الصحي، مهما اختلفت شروطه، تنقلب الآية، فيكون الجحيم هو نحن، هو الأنا. في هذه الخلوة المفروضة، علينا أن نواجه خوفنا ووحدتنا، ونحن لا نجيد ذلك، فنلجأ إلى الانترنت والواتساب والفايسبوك والنتفليكس وغيرها وغيرها من وسائل الترفيه واللهو. نلجأ إلى الأكل، إلى الطبخ، إلى الكلام، إلى أي شيء يمنعنا من رفع الحُجب عن النفس، ومواجهة هذا الكائن الذي تتصارع في داخله كل الملائكة والشياطين. ينتابنا خوف من الصمت، وخوف من الخوف. وكيف لا، ألم تكن الخلوة في معظم التقاليد الروحية، شرطاً أساسياً للسمو بالنفس إلى مراحل أرقى من التنوّر أو التحرّر أو العرفان، وظيفتها تطهيرية وهي من أصعب التجارب التي قد يُمتحن بها الإنسان.

وطبعاً، كل هذه النصائح يوجهها العلماء لفئة معينة ومحظوظة من الناس. فإن جمعت بينهم هذه الأزمة على صعيد ما، ففي النهاية من يدفع الثمن هم الضعفاء، المهاجرون واللاجئون والعمّال والمسنّون والطبقات المهمّشة... وإذا كان لا بد من فائدة إنسانية لهذه الأزمة التي عبرت كل الحدود، فهي، من جهة، مساءلة هذا العدو (أي المنظومة التي نعيش وفق شرائعها)، ومن جهة ثانية إعادة الاعتبار لما هو جوهري في هذه الحياة: الصداقة، الحب، التضامن، وكل هذه الأمور التي نكاد ننساها...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024