الأسد يهدئ مخاوف مسيحيي سوريا

وليد بركسية

الأحد 2018/12/30
نقية هي الصورة التي يظهر بها رئيس النظام السوري بشار الأسد، خلال زيارته إلى قرية السودا في طرطوس، مصطحباً معه عائلته، زوجته وأطفاله، براحة شديدة وبساطة كأنهم أفراد عائلة صغيرة عادية محبة تتجمع مع بعضها وتحيي جموع الجيران والغرباء بأعياد الميلاد ورأس السنة، كالبشر الطبيعيين، وليسوا العائلة التي تسببت بأكبر كارثة إنسانية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

وبين الابتسامات وصور السيلفي في مطعم شعبي فقير ومتواضع، يمشي الأسد بثياب عادية وبساطة مع زوجته أسماء، التي تغطي رأسها لإصابتها بمرض السرطان. هذا العنصر المهم في تركيز الكاميرا المرافقة عليه، يجعل المتابع تلقائياً يضع يده على قلبه ويتعاطف مع العائلة التي تعاني شخصياً وعلى مستوى "المسؤولية الوطنية" والتي رغم كل شي تبقى "مع الشعب" في لحظات الفرح ضمن موسم الأعياد.



والحال أن الظهور المتكرر للأسد، وعائلته، في مناطق مهمشة من البيئة الموالية أمر عادي، فالزيارات التي تدعي العفوية، تقوم بدور أساسي ضمن بروباغندا النظام المحلية، منذ صيف العام 2017، في ترويج أفكار إعادة الإعمار وإزالة مظاهر التشبيح المستشرية في الأوساط الموالية للنظام، أو التمهيد لفكرة المصالحة بين السوريين وإنهاء الأحقاد أو على الأقل تخفيف مستوى الاحتجاج في البيئة الموالية التي تشتكي من الإهمال الرسمي.

بعكس ذلك تلعب الزيارة الأخيرة في طرطوس على وتر مختلف، فالأسد لا يزور هنا القرى ذات الأغلبية العلوية في حماة أو الساحل السوري، مثل جولاته المحلية السابقة، بل يختار قرية ذات أغلبية مسيحية، بعد أشهر من الجدل الكبير الذي أحدثه المرسوم التشريعي رقم 16 الذي يعطي وزارة الأوقاف السورية صلاحيات واسعة، ما أثار حفيظة الطوائف المسيحية، بلغت حد الانقلاب على النظام في مواقع التواصل الاجتماعي.

ويحاول الأسد بالتالي طمأنة المسيحيين في الداخل السوري، فهو الرئيس العلوي يزور جيرانه ضمن محافظة ذات أغلبية علوية، في فترة عيد الميلاد وهي فترة التسامح العائلي. وبالتالي يسعى الأسد إلى تخفيف شعور المسيحيين بأنهم مهددون في سوريا المستقبلية التي سيحكمها الأسد بقبضة حديدية ويعطي فيها امتيازات كبيرة للنخب السنية التي وقفت معه خلال الثورة السورية، وهو أمر كانت تتميز به الطائفة المسيحية، خلال عقود الحكم الأسدي للبلاد، وذلك ضمن استغلاله للمسيحيين، سياسياً ودعائياً، بتصوير نفسه أمام الغرب كنظام يحمي المسيحيين في المشرق.

وكان الأسد استغل الكثير من المناسابات الدينية المسيحية في السابق للقيام بزيارات مماثلة، سواء في الفصح أو الميلاد ورأس السنة، لكن زياراته السابقة لم تكن تبتعد عن نطاق العاصمة دمشق أو مدينتي صيدنايا ومعلولا اللتين تحملان رمزية دينية في المشرق، ورغم أن الوضع الأمني الذي فرضته الحرب السورية لم تكن يسمح له بزيارات أبعد نحو القرى المسيحية المهمشة، لكن تلك الزيارات كانت تؤدي المطلوب منها بتقديم الأسد كحام للمسيحيين من "الإرهاب السني" الذي تمثله المعارضة.



والحال أن النظام كرس طوال سنوات حكمه للبلاد، شعوراً لدى المسيحيين بأنهم طائفة ذات امتيازات خاصة. فباستثناء بعض القرارات المجحفة التي طالتهم كالاستيلاء على المدارس الخاصة العام 1967 في حلب وغيرها، ضَمن النظام لهم امتيازات، هي في الأصل حقوق، بعكس طوائف ومذاهب أخرى، مثل حرية العبادة والاحتفالات الدينية واستمرار نشاط المنظمات شبه الأهلية الملحقة بالكنيسة كالأخويات وأفواج الكشافة، وتعامل النظام مع المسيحيين باعتبارهم جماعات لا أفراداً، وهو أمر مألوف لدى الأنظمة الشمولية حيث يستمد الفرد نقاط قوته من انتمائه إلى الجماعة، لا من اعتباره مواطناً في دولة تحترم مفهوم المواطنة، فضلاً عن غضّ النظر عن بعض الأنشطة كالكشاف المسيحي التابع للكنائس، بعكس الأنشطة المماثلة لدى بقية الطوائف والأديان في البلاد، والتي تكفلت بها منظمات الطلائع والشبيبة التابعة لحزب البعث، عبر تجربة المخيمات العسكرية.

إلى ذلك، كررت الصفحات الموالية عبارة "مع الشعب" في تعليقها على الزيارة، وهي خاصية باتت مرافقة لدعاية الأسد منذ وصوله للسلطة العام 2000، والتي تصور الأسد رئيساً محبوباً من شعبه لدرجة أنه يمشي بأمان مع عائلته من دون مرافقة في الشوارع والمطاعم الشعبية والقرى النائية، لأنه لا يخاف من ذلك الشعب لأنه ينتمي إليه! وهي عقدة نفسية لدى الأسد الابن منذ طفولته في ظل والده حافظ الأسد، وتحدث عنها جيرالد بوسس الذي يساعد وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" في تحليل الشخصيات الدكتاتورية، لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في فيلم وثائقي مؤخراً.

 الأسد بات يتقن لعب هذا الدور، خصوصاً أن مقاطع الفيديو الصغيرة التي لا تبلغ مدتها دقيقة واحدة، لا تترك له مجالاً كي يظهر بصورة دعائية فجة، كما الحال في خطاباته الرسمية، وبين تهافت الناس البسطاء عليه لنيل رضى "المعلم" ومع ملامح أجواء الميلاد الملونة، يُخلق جو مزيف من العفوية والرومانسية، الذي يتمنى المتابع له لو كان واقعياً وليس مجرد خدعة دعائية أخرى في بلد مزقته الحرب ودمرته عائلة الأسد نفسها التي تبتسم في الصور، كعائلة من المشاهير، وتستمر في حكمها الدموي للبلاد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024