للعمل من أجل ماضٍٍ أفضل

منال خضر

الجمعة 2020/04/03
تخلصنا مرغمين من الكثير من "الحركة بلا بركة"، حتى استسغنا الأمر، واكتشفنا بعد اسابيع قليلة أن البركة ربما تتأتى عن قلة الحركة. اكتشفنا أننا لا نكون نحب أهلنا وأصدقاءنا أقل إذا رأيناهم أقل.

واكتشفنا أيضاً أننا لم نخسر الكثير مع تضاؤل نسبة استهلاكنا إلى حد كبير. قد نكون اكتشفنا أن الحياة أقل، هي ربما الحياة أكثر.

غير أن قلة الحركة أتت علينا ببعض الأعراض الجانبية مثل التنميل، وهو، بحسب ويكيبيديا، ذلك الاحساس الذي يشبه زحف الحشرات الصغيرة على الجِلد، وهو شكل واحد من مجموعة الأحاسيس المعرّفة باسم مذل. وفي حالات نادرة، يقتنع الافراد بأن الإحساس يعود إلى وجود حشرات حقيقية على الجِلد أو تحته، رغم التطمينات المتكررة من الأطباء وخبراء مكافحة الآفات وعلم الحشرات.

وهناك الترنّح، وهو من الأعراض الأخرى الناجمة عن قلة الحركة ـ التنقل من السرير إلى الكرسي، ومنه إلى الكنبة، ومنها إلى كرسي الحمّام، ومنه إلى السرير، وهكذا دواليك. والترنح، بحسب القاموس، عبارة عن إشارة عصبية تتضمن انعدام التنسيق الإرادي للعضلات.

فما فائدة التفكير في الغد، كي لا نقول في المستقبل؟ فهو مليء بالأسئلة الكبرى الوجودية والحياتية والمادية وغيرها، يشوّش واحدُها الآخر بحيث يضيع أي جواب محتمل في الغبش. والغبش، بحسب قاموس المعاني، هو اختلاط آخر الليل ببياض الفجر.

في ظل غياب نموذج قيمي وأخلاقي وسياسي واقتصادي، أو بكلمات أخرى، في ظل غياب نظام إنساني مقنع على الأصعدة المختلفة، يصعب الأمل في مستقبل أفضل ـ خصوصاً إذا لم نكن من جماعة "المحكومين بالأمل". لكن، ألسنا جميعاً بحاجة إلى ما يحفّزنا على العمل، وعلى الإنتاج والإبداع؟

الديموقراطيات السياسية تغنّت بحقوق الفرد، قبل أن ينتهي الأمر بها (بمعظمها) إلى الانقضاض على الفرد وحقوقه، وبات تعريف حقوق الإنسان في ديارها شيئاً نسبياً ومجرداً، فيما قامت الديكتاتوريات بتحرير اقتصادها، بحيث يقضي على ما أبقته السياسة من هواء قابل للتنشق. أما الدول المتقدمة تكنولوجياً، فباتت حكوماتها قادرة على معرفة درجة حرارة أجسامنا فيما نحن مستلقون على أسرّتنا نحاول زيارة بعض المتاحف ودور الأوبرا، التي بادرت، في زمن الكورونا، إلى خطوات "إنسانية" وفتحت أبوابها افتراضياً للمتعطشين إلى الثقافة.

أما المعادلة الحسابية في هذه الحالة، فتصبح كالتالي: التنميل زائد الترنّح يساوي: لا للأمل، نعم للعمل من أجل ماضٍ أفضل.

فنحن نعيش اليوم مرحلة استثنائية، البعض يعتبرها حرباً عالمية ثالثة، وعادة ما تنطوي مراحل ما بعد الحرب على إعادة إعمار وعودة مهجرين ومصالحات يحدد شروطها المنتصر. لا نعلم في حالنا اليوم من سيكون المنتصر، فإذا كان فيروس كورونا هو صاحب الحظ، سيحتاج الناجون إلى وقت طويل قبل التفكير في المستقبل. أما إذا انتصرت الحياة، فلا بد من العمل على ماضٍ أفضل.

لنعتبر هذه اللحظة التاريخية، وهي بالفعل كذلك، أقله بالنسبة لجيلنا: لحظة الصفر. ستمر هذه العاصفة لا محالة، وسيبقى معظمنا على وجه الأرض، لكن أين الوجهة؟ العودة إلى "حياتنا الطبيعية" هي أسوأ الخيارات. ففيروس "كوفيد 19" وطقوسه، ليست مستحدثة بقدر ما هي استكمال لشعائر وأخلاقيات وسياسات حرص عالمنا بمختلف مكوناته البشرية، وإن بدرجات متفاوتة، على ازدهارها. لا بدائل، ولا حتى وعود ببدائل مقنعة على خط الزمن، من بعد نقطة الصفر، وبالتالي قد يكون خيارنا الوحيد هو السير في الاتجاه المعاكس لخط التاريخ، والعمل على تفكيك إنجازات البشرية السابقة على هذه اللحظة، والتي ليست أزمة كورونا برمزيتها غير وجه واحد من وجوهها الكثيرة. وبدلاً من الانتقال الطوعي، من الرأسماليات المتوحشة والديكتاتوريات العسكرية، إلى مرحلة الديكتاتوريات الرقمية وتبعاتها على إنسانيتنا، خوفاً منا على وجودنا الهش، دعونا نقوم بتمارين رياضية نتحدى بها التنميل والترنّح. دعونا نحتفل بالماضي إذ ربما نجد في استنطاقه ما يقلل من... الغبش.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024