لا شيء رئاسياً في هذه المناظرة!

وليد بركسية

الأربعاء 2020/09/30
"لا شيء رئاسياً في هذه المناظرة" هي الجملة التي تكررت في مواقع التواصل الاجتماعي بالانجليزية والعربية ووسائل الإعلام الكبرى، كتوصيف للمناظرة الرئاسية بين المرشحين للبيت الأبيض الجمهوري دونالد ترامب والديموقراطي جو بايدن، انطلاقاً من إيمان غريب بأن السياسة ممارسة نبيلة يقوم بها أشخاص مرموقون لهم مكانتهم التي تستوجب الاحترام والتقدير، بعكس الواقع الذي تعبّر عنه أرقام العازفين عن التصويت في الديموقراطيات الغربية عموماً، ممن يعبرون بوضوح عن نفور من السياسيين مهما اختلفت أسماؤهم ومناصبهم، بوصفهم فاسدين ومتسلقين وكاذبين ومنفصلين عن واقع الناس.

ومن دول الشرق الأوسط التي تشهد اضطرابات سياسية رافضة للنخب الحاكمة مروراً بدول أوروبا التي تحاول إيجاد معنى للاتحاد الأوروبي بعد أزمة "بريكست" وليس انتهاء بكل ما يحصل في الولايات المتحدة، وفي الدول الشمولية الكبرى كالصين وروسيا، يبدو العالم ككل وكأنه في حالة تململ من طبقة السياسيين. ويبدو الأمر للحظة وكأنه وعي جماعي مفاجئ بما كتبه الروائي الفرنسي مارتن باج في روايته الساخرة "هكذا أصبحت غبياً" التي تتحدث عن الذكاء البشري وتطور الحضارات وبناء المجتمعات، والتي يصور فيها السياسيين ضمنياً كأشخاص نبذهم التطور الطبيعي وجعلهم يحملون نوعاً من الحقد على البشر العاديين السعداء الطبيعيين.


إلا أن الأمر قد يكون مختلفاً عن ذلك التعميم. فالاستياء من طبقة السياسيين المحلية في كل بلد يختلف عن الاستياء من الطبقة نفسها في بلد آخر. على سبيل المثال ثارت شعوب الشرق الأوسط من أجل الحرية والديموقراطية منذ انطلاقة الربيع العربي العام 2010، قبل أن تنحرف عن مسارها كما حدث في سوريا مثلاً. أما في فرنسا التي شهدت احتجاجات السترات الصفراء العام 2018، فالديموقراطية موجودة وهي التي حركت الاحتجاجات وشكلت غطاء لها. وفي الولايات المتحدة التي تتسيد النقاشات العامة اليوم، يبدو المشهد تكراراً لما حدث قبل 4 سنوات، ويعيد التذكير بقضاياً جوهرية مثل عزوف الناس عن التصويت ضمن الديموقراطيات الغربية منذ تسعينيات القرن الماضي على الأقل.

وشهدت المملكة المتحدة عزوفاً متزايداً عن التصويت منذ العام 1992 الذي بلغت نسبت المشاركة في الانتخابات العامة حينها 77.7%، لتبلغ في العام 2015 حداً منخفضاً تاريخياً عند نسبة 66.1% فقط، ما يعني أن نحو ثلث البريطانيين يعزف عن التصويت. ولا يختلف الأمر في الولايات المتحدة التي كرر المشاهير دعواتهم فيها للتصويت ومن بينهم الممثلة فيولا دايفز والمغنية بينك بالإضافة لوسائل الإعلام.  ويربط مركز "بيو" للأبحاث بين العزوف الأميركي عن الاهتمام بالسياسة وبين حقيقة أن الأثرياء وكبار السن والمتعلمين يهيمنون على السياسة الأميركية، لأنهم يلعبون اللعبة السياسية بشكل جيد، مع وجود فجوة عرقية في الاهتمامات ضمن البلاد أيضاً التي عادت فيها مسألة العنصرية إلى الواجهة العام الجاري بعد مقتل جورج فلويد، المواطن المنحدر من أصول أفريقية، على يد رجال شرطة بيض.

ويربط الباحثون بين العزوف عن التصويت كموقف سياسي حاسم لا يقل عن انتخاب مرشح دون آخر، وبين صعود الإنترنت، وتفاقمت المشكلة مع بروز السوشيال ميديا كمصدر رئيسي للمعلومات، ما أفقد مصادر المعلومات التقليدية قوتها. والأسوأ ربما هو أن خوارزميات مواقع التواصل ومحركات البحث الكبرى تعرض على الأفراد مواضيع وقصص مرتبطة بهم وباهتماماتهم، وتجعلهم بالتالي يعيشون في فقاعات صغيرة من دون خلق اهتمام بما يجري حولهم، ويصبحون بالتالي غير مدركين للمشاكل من حولهم إلا عند تعرضهم اللحظي لها، ويفقدهم ذلك بالتالي الرغبة أو الدافع للانخراط في السياسة بشكلها السائد.


وبشكل مواز لا يمكن القول أن السوشيال ميديا والإنترنت خلقت تلك المشكلة فقط. بل جعل ذلك الأفراد يهتمون فعلاً بالقضايا التي يريدون الاهتمام بها. وجعلت كثيراً من الأشخاص يدركون أن الطبقة السياسية الحالية والأحزاب الكبرى لا تمثلهم بقدر ما تريد استغلالهم عبر الكلمات المنمقة والشعارات الأنيقة، وهو ما أثبتته دراسة مركز "Survation" البريطاني حول لتصويت بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي. ويحيل استمرار الحديث عن نفس النقاط عاماً بعد عام إلى حقيقة أن الديموقراطيات الغربية لم تستجب بعد لتلك الحاجة الجديدة ضمنها. وحتى في حالة الانتخابات الأميركية المقبلة، كرر أفراد حديثهم في "تويتر" عن الإحباط من السياسيين من كافة الانتماءات الحزبية.

ولم تكن المشكلة أن يقول بايدن لترامب: "هل تستطيع أن تخرس"، لأن تلك الوضاعة اللغوية بنظر كارهي السياسيين هي التعبير الأمثل عن الطبقة السياسية من دون مساحيق التجميل القائمة على الكلمات المنمقة التي تستخدم لخداع الناس. وهنا يشتكي الأفراد من الحملات الانتخابية المضللة ومن الكذب الصريح ومن عدم النزاهة، وليس من المفاجئ أن عبارة مثل "نحن لا نريد السياسيين" باتت رائجة. كتبت سيدة أميركية أنها انتخبت ترامب قبل 4 سنوات فقط لأنه ليس سياسياً بل لأنه رجل أعمال. وكتب آخر أن كل السياسيين كاذبون. والمخيف أن عبارات مثل "نحن لسنا بحاجة إلى سياسيين. نحن بحاجة إلى قادة" باتت تتردد. وتدفع بها مقاربات مع "الرجال الأقوياء" مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي لا يخفى على أحد دور بلاده في تقويض الديموقراطيات الغربية، وتقديم نماذج بديلة للحكم مثل النموذج الصيني الذي يعزز سيادة الدولة على الأفراد.


ومن المثير للاهتمام هنا أن النقاشات الحامية في مواقع التواصل تذكر دائماً بأن الشخصيات السياسية التي حظيت بالاحترام والإشادة، عانت من انتكاسات مماثلة لأي سياسي غير محترم، مثل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو الذي واجه عدة تحقيقات بشأن تضارب المصالح والأخلاقيات، بعد جدل على منح عقد لمنظمة خيرية لإدارة برنامج حكومي مهم. ولا يتعلق الأمر بالطبع بالرؤساء وأصحاب المراكز القيادية بل يتعداه إلى السياسيين الأصغر شأناً، أيضاً، الذين يهتمون بمصالحهم بدلاً من تنفيذ وعودهم الانتخابية الأبسط مثل تحسين الشوارع أو صيانة المرافق العامة.

البحث عن قادة ملهمين يعزز فكرة الإحباط من السياسيين الكاذبين والنخب التي تبحث عن مصالحها الخاصة الضيقة. في فرنسا مثلاً كان إيمانويل ماكرون قائداً ملهماً لفترة وجيزة في المخيلة الشعبية عند وصوله إلى قصر الأليزيه العام 2017، خصوصاً أنه كان اسماً يجسد السياسة الجديدة بعيداً عن الأحزاب التقليدية مع فقدان الشعب الفرنسي ثقته في التيارين الرئيسيين اليميني واليساري بعد ضعف أداء الرئيسين اليميني نيكولا ساركوزي (2007 - 2012)، واليساري فرانسوا هولاند (2012-2017)، لكن ذلك الإعجاب يبقى وهمياً حيث يبقى ماركون الرئيس الفرنسي الأضعف شعبية في تاريخ الجمهورية الخامسة عل الإطلاق، إذ صوت له 20 مليوناً مقابل 10 ملايين صوتوا لمنافسته ماري لوبان فيما امتنع 16 مليون آخرين عن التصويت بطريقة أو بأخرى، ويعني ذلك مجتمعاً منقسماً أكثر من أي وقت مضى بشكل يعاكس شعار حملته الانتخابية "نتجمع" (coming together).

ورغم أن المستشار الألمانية أنجيلا ميركل حازت على إعجاب عالمي بسبب سياستها الإنسانية تجاه اللاجئين وقرارها التاريخي فتح الحدود أمام اللاجئين العام 2015، فإن ذلك أدى في انتخابات العام 2017 إلى تحقيق التحالف المسيحي الذي تقوده ميركل والمكون من الحزب المسيحي الديموقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي، أسوأ نتيجة له منذ العام 1949 فيما شهدت البلاد دخول أول حزب يميني متطرف هو "الحزب البديل" كجزء من النازية  الجديدة إلى البرلمان في بلاد عانت لسنوات من مسألة العنصرية.


وإن كانت التغريدات المتذمرة من الطبقة السياسة في النهاية تبقى تعبيراً عن موقف ذاتي من أي حدث، مع التسليم بأن كل ما يجري على الكوكب بات قابلاً للخضوع للمنطق الشخصي، فإن مجموعها يعبر عن حالة انتقالية يعيشها الكوكب اليوم، حول السيادة العالمية مع تراجع الولايات المتحدة عن سيادتها التقليدية وغرق أوروبا في مشاكلها المتراكمة. والحل لهذه الحالة من عدم اليقين، ليس بنبذ الديموقراطية بالطبع، بل قد يأتي من الديموقراطية نفسها، التي يفترض أنها ستقدم نماذج بديلة للسياسيين يستطيعون ملامسة قضايا المجتمعات العصرية في القرن الحادي والعشرين من جهة، وإلهام الشعوب في الدول الشمولية للتطلع إلى الحرية من جهة ثانية.

ويفترض ذلك تطوير نقاشات أكثر جدية حول معنى الحكم الرشيد والغاية من وجود حكومات وماهية المجتمعات المنشودة من العملية الديموقراطية ككل. خصوصاً أن الاستياء لا يرتبط بنموذج الحكم نفسه بل ممن ينشطون فيه ويقودونه، بعكس الحال في دكتاتوريات الشرق الأوسط مثلاً، علماً أن الاستياء الغربي يمتد نحو المصالح الاقتصادية التي يمثلها السياسيون، بما في ذلك طرق الإنتاج وأساليب العمل ودورة الاقتصاد. وليس من التشاؤم القول أن فشل الدول الديموقراطية في تحقيق ذلك التطور الداخلي قد يكون مخيفاً، مع بروز قوى جديدة ظلامية كروسيا والصين، تستغل قوة الإنترنت ببراعة لمهاجمة النموذج الديموقراطي الذي لا توفره لشعوبها المحلية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024