الروس يستهدفون الشبكة السورية لحقوق الإنسان

وليد بركسية

الخميس 2019/06/20
منذ العام 2017 كثفت روسيا مقامرتها الدبلوماسية لإعادة صياغة النقاش الإنساني الدولي حول سوريا، ونقله بعيداً من التركيز على رفع دعاوى قضائية بخصوص جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الرئيس السوري بشار الأسد بقتل وتعذيب وتجويع مئات الآلاف من المدنيين طوال سنوات الحرب في البلاد، وخلق سردية بديلة تشوه الحراك السلمي نحو الديموقراطية في البلاد. ويتعزز ذلك اليوم في حملة شرسة من الإعلام التابع للكرملين ضد مؤسسات حقوقية وإعلامية مرموقة، تبدأ بمنظمة العفو الدولية "أمنستي" و"مراسلون بلا حدود" ولا تنتهي عند "الشبكة السورية لحقوق الإنسان".


ومنذ نهاية الأسبوع الماضي، شن الإعلام الممول من الكرملين، بلُغات عديدة، حملة ضد "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، في برامج تلفزيونية ومقالات صحافية، شارك فيها صحافيون وناشطون غربيون موالون لروسيا، من بينهم الناشطة البريطانية فانيسا بايلي التي تعتبر واحدة من أشهر ناشري البروباغندا الروسية عبر الإنترنت والتي تروج لنمط "الصحافة البديلة"، حيث نشرت مقالاً في موقع "Mint Press News" الأميركي، اتهمت فيه الشبكة بأنها "مسؤولة عن كثير من التقارير التهويلية عن الصراع السوري" وبأنها "ممول رئيسي لدعاية القنابل البرميلية".

والموقع المذكور الذي انطلق العام 2012، هو أحد من المواقع التي تنادي بحرية مصادر المعلومات البديلة "Alternative News" في العالم، ويعني بذلك حسب المنطق الروسي مصادر "الأخبار الكاذبة" الممولة من الكرملين، وهو جزء من مئات المواقع التي باتت سلاحاً روسياً لمهاجمة الديموقراطيات حول العالم، والتي ساهمت في انتخاب رؤساء شعبويين متطرفين مثل دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وحتى في تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي، حسبما تشير وسائل إعلام غربية مستقلة.

ومن اللافت اختيار بايلي لهذا الموقع المغمور، بدلاً من مواقع روسية أكثر شهرة ربما، مثل "المصدر نيوز" المهتم بالشأن السوري، وقد يعود ذلك للرغبة في الترويج للمزاعم الروسية بحق المنظمات الحقوقية الدولية في أوساط اليسار الأميركي المشكك بوسائل الإعلام الكبرى، وهي فئة الجمهور المستهدف من الموقع الذي تترأس تحريره منار مهاوش، والتي تقول عن نفسها أنها أول أميركية محجبة تقدم نشرات الأخبار في الولايات المتحدة، وتتهم كثيراً بالولاء لأطراف خارجية، خصوصاً أن موقعها يحظى بتمويل من جهات غير محددة، يعتقد أنها روسية وإيرانية.



توقيت الهجمة الروسية التي وإن لم تكن أمراً جديداً، ليس عبثياً، بل يرتبط بتقارير أصدرتها الشبكة مؤخراً، وكثفت فيها مطالبتها بتدخل المجتمع الدولي عبر تحالف من الدول المتحضرة لحماية المدنيين في سوريا، على غرار ما حصل في تدخل حلف شمال الأطلسي العام 1999 في يوغسلافيا، وهي مسألة حساسة بالنسبة للروس وتعتبر ضربة قاصمة لهم في حال حدوثها، حسب تعبير مدير الشبكة فضل عبد الغني.

وأضاف عبد الغني في حديث مع "المدن"، أن الشبكة بنت هذا المطلب بموجب القانون الدولي بناء على فشل مجلس الأمن طوال ثماني سنوات، ما يعني عدم وجود تدخل دولي لحماية المدنيين السوريين عن طريق الأمم المتحدة، رغم أنهم مازالوا يتعرضون للقتل من طرف النظام بوساطة أسلحة الدمار الشامل والبراميل المتفجرة. علماً أن المقالات الروسية حاولت تعيير الشبكة بإطلاق الألقاب عليها وتحويل اسمها من "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إلى "الشبكة السورية لتغيير النظام".

وعلّق عبد الغني لـ"المدن" بأن تغيير النظام في الواقع هو أحد الأسباب الاساسية للحفاظ على حقوق الإنسان الذي ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية طوال ثماني سنوات تورط فيها بمئات آلاف الانتهاكات، وبالتالي فإن التخلص منه هو محافظة حقيقية على حقوق الإنسان وبقاءه هو أحد أكبر الانتهاكات لحقوق الإنسان.

والحال أن هناك أسباباً أخرى للنقمة الروسية على الشبكة، منها فضح الجرائم التي تقوم بها روسيا، وخصوصاً حملتها الأخيرة في إدلب والتي تضمنت قصف المستشفيات وخيم النازحين وأيضاً القصف الذي قام به النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيميائية في ريف اللاذقية مؤخراً، وهو تقرير أعدته الشبكة ودعت فيه الدول الغربية، وخصوصاً فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، للوفاء بوعودها باستخدام القوة ضد النظام في حال استخدامه الأسلحة الكيماوية.

وأوضح عبد الغني، أن الروس قادرون على التعامل مع كل ما يحدث داخل سوريا، من فصائل مسلحة وغيرها، لكنهم يدركون أنهم سيخسرون كل شيء في حال حدوث تدخل عسكري دولي لإضعاف النظام وقصفه وتغييره. وبالتالي تشكل الدعوات لهذا النوع من التحركات خطراً عليهم، وأضاف: "نحن نشكل تهديداً أساسياً لهم بكشفنا للانتهاكات التي يقومون بها ومطالبتنا بالتدخل لحماية المدنيين وإشارتنا لمدى حماية موسكو لنظام الأسد ما يعني أنها شريكة في الانتهاكات التي قام بها النظام أيضاً".

وفيما كانت بيانات التنديد بالمنظمات الحقوقية في السابق، تصدر من الخارجية الروسية وتحديداً المتحدثة باسمها ماريا زاخاروفا، فإن السفارة الروسية في دمشق باتت تلعب هذا الدور مؤخراً، بإصدارها عدداً من البيانات ضد الإعلام الغربي. ففي 31 أيار/مايو الماضي، نشرت السفارة بياناً اتهمت فيه صحيفة "نيويورك تايمز" وشبكة "سي إن إن" "بتشويه سمعة السلطات السورية استخدام أدلة مشكوك فيها لاتهام دمشق بسوء معاملة السجناء"، حسب وصفها، معتبرة أن المنظمات الحقوقية التي استندت عليها التقارير الإعلامية مفتقدة للمصادقية وممولة من الغرب، وهي نفس الاتهامات التي تواجهها الشبكة السورية لحقوق الإنسان اليوم.

وبحسب عبد الغني، فإن الربط بين المنظمات الحقوقية المستقلة والغرب ربط غير دقيق، لأن الثورة السورية لم تكن مرتبطة بالغرب أصلاً. وأضاف: "كنا نتأمل، كحراك من أجل الديموقراطية، من الدول الديموقراطية أن تقف معنا أكثر مما فعلت، لأن الشعارات التي رفعناها كانت الحرية والكرامة والانتقال السلمي للسلطة نحو الديموقراطية، ولم نطالب سوى بدولة تعددية تمتلك برلماناً محترماً، وليس مجلس مصفقين، وشفافية وقضاءَ نزيهاً وفصلاً بين السلطات وما إلى ذلك، لكن بعد انطلاق الحراك الشعبي لم يقدم الغرب الدعم الكافي".

وأكمل عبد الغني، بأن روسيا تريد إفشال أي حراك نحو الديموقراطية في العالم، كي يزداد عدد الدول الشبيهة بها والداعمة لها، حيث تسعى كل الدول الشمولية في الواقع، إلى إشاعة نمط سياسي سائد يدعم أعضاؤه بعضهم البعض، "فمن يصوت لصالح النظام في المحافل الدولية مثلاً هي الدول التي تعتبر استطالات لروسيا مثل كولومبيا والإكوادور والجزائر والعراق وإيران والصين"، وبالتالي يفترض بالدول المتحضرة مساندة الحراك الشعبي في سوريا الذي يطالب بتغيير نظام دكتاتوري شمولي يعتبر من أعنف الأنظمة الموجودة على الكوكب".



وخلال الأسابيع الماضية، شهدت الأمم المتحدة نقاشات حامية حول استهداف موسكو المتعمد للمشافي والمراكز الصحية في إدلب، وهو جدل غذته وسائل الإعلام الغربية التي فضحت الاستراتيجية الروسية القائمة على زيادة معاناة المدنيين من أجل الضغط على الغرب للقبول بأي اتفاق جائر لوقف إطلاق النار يتضمن السيطرة على إدلب و"تحريرها من الجهاديين". ونشرت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" مؤخراً تقريراً متكاملاً تحدثت فيه بالتفصيل والأدلة مع التواريخ عن استهداف المنشآت الصحية بشكل متعمد وممنهج من قبل الطيران الروسي وطيران النظام، وقد يكون ذلك سبباً مباشراً في الحملة الروسية ضدها اليوم.

ورغم ذلك، يرى عبد الغني أن "هذا التشكيك لن يؤثر علينا ولا على بقية المنظمات الدولية ولا على الصحافيين الذين يتعاملون معنا، لأن هذا التشكيك موجه للحاضنة الشعبية لكل من الروس والنظام السوري على حد سواء، بغرض إيصال رسالة لها بأن هذه التقارير الحقوقية هي تقارير غير موضوعية وممولة من الغرب ومن دول إقليمية وتتبع للإمبريالية وغير ذلك من العبارات السخيفة التي تتكرر في هذا الخطاب. والهدف من كل ذلك هو دفع الحاضنة الشعبية لهم لعدم تصديق التقارير الحقوقية ذات الصلة، والمحافظة بالتالي على الدعم الشعبي المحلي لعمليات القصف والإبادة التي تتم".

ومع انحسار المعارك العسكرية تدريجياً في السنوات الأخيرة، بات الصراع في البلاد يدور بشكل واضح حول المفاهيم والسرديات، وتحاول المنظمات الحقوقية والناشطون والجهات الدولية ذات الصلة ووسائل الإعلام المستقلة منع الطرف الذي انتصر في الحرب بسياسة الأرض المحروقة من فرض سرديته المشوهة عن الإرهاب في البلاد فقط.

وبحسب عبد الغني، فإن الثورة السورية تتضمن عدة معارك على عدة جبهات، منها الحرب الحقوقية التي تخوضها "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" ضد الروس في كافة المحافل الدولية مثل مجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة. وهنالك الحرب الإعلامية من أجل تثبيت رواية أو سردية (Narrative) وتشكل المفاهيم جزءاً من تلك السردية. و"تحاول الشبكة منع تزييف التاريخ الذي حصل ومازال يحصل، ونريد فضح المجرمين، وهذا لا يناسب الروس بطبيعية الحال ولذلك يحاولون نسف مصداقية الأطراف التي تقوم به أو على الأقل يحاولون تمييع خطابها واحتواءه".

ويرى عبد الغني أن جهات كثيرة نجحت في احتواء خطاب قسم كبير من المنظمات السورية للأسف الشديد، وصار خطابها غير واضح الهوية، فجوهر ما حصل في سوريا وأساسه هو معركة بين الاستبداد والشعب والنظام قابل ذلك بالعنف والقتل والإبادة والتعذيب. هذه السردية الأساسية في سوريا والتي يحاولون دفعها نحو المقعد الخلفي بالتدريج، عبر سردية بديلة تتحدث عن الإرهابيين عبر ضخ إعلامي كثيف والتشكيك بالمدافعين عن حقوق الشعب السوري.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024