الأسد على غلاف "نيوزويك".. نعم انتصر! لكن كيف؟

وليد بركسية

الخميس 2021/10/14
في العام 1986 تصدر الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون غلاف مجلة "نيوزويك" الأميركية مع عبارة "لقد عاد" (He's Back) في صورة مازالت المؤسسات التي تحمل اسم نيكسون تنشرها كل عام كذكرى سنوية لم تغير من الواقع شيئاً ولم تمحُ صورة نيكسون القاتمة بوصفه الرئيس الوحيد الذي اضطر للاستقالة من منصبه في البيت الأبيض بتأثيرات فضيحة "ووترغيت" العام 1974، حتى عندما حاول العودة للمشهد السياسي بعد عشر سنوات كما يظهر في الغلاف.

واليوم بعد عشر سنوات كاملة من الثورة السورية وما تبعها من مجازر بحق الشعب السوري وانتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم حرب، خصصت "نيوزويك" نفسها غلافها للرئيس بشار الأسد مع نفس العبارة "لقد عاد"، في إشارة لاتجاه دول عربية وإقليمية لتطبيع علاقاتها مع دمشق "لمصالح ضيقة" بشكل قد يؤثر على اتجاه العلاقات الأميركية السورية التي تحكمها حالياً سياسة العقوبات والقطيعة المطلقة والعداء المتبادل.


لكن الغلاف الذي احتفل به موالو النظام وإعلامه الرسمي وشخصيات في حلف الممانعة الذي يضم إيران وحزب الله وميليشيات عراقية وغيرها، ليس اعترافاً رسمياً بانتصار الأسد في الحرب، كما أنه ليس تطبيعاً إعلامياً معه، ولو احتوى التقرير لقاءات مثيرة للجدل مع شخصيات من النظام تتحدث للإعلام الأميركي بدرجة من الوقاحة لم تكن معهودة في لقاءات سابقة، من بينها المستشارة الإعلامية في القصر الجمهوري بثينة شعبان، التي تحاضر بمعنى الحريات والديموقراطية، كعادتها، وتستخدم ذلك كمنطلق لمهاجمة "الغرب السفيه الفاجر" كما يحلو للإعلام الرسمي في سوريا تسميته.

ومن المؤسف حقاً مشاهدة الإعلام الأميركي يغير لهجته بهذه الشدة، فلماذا مثلاً يتم تكريس غلاف واحدة من أشهر المجلات السياسية على الإطلاق لديكتاتور مجرم قتل نصف مليون شخص وتسبب في تهجير 12 مليوناً آخرين، وليس للشجعان والناجين والضحايا؟ ولماذا يتم تكريس عبارات تفوهت بها شخصيات من ضمن النظام نفسه، كشعبان، مثل أن الشعب الثائر ضد النظام هزم من قبل الشعب الموالي للنظام وكأن البلد مقسم بين حالتين متوازيتين من القوة والشعبية؟ وكيف يمكن إهمال مئات الآلاف من القتلى والمغيبين قسرياً بهذه الطريقة اللاإنسانية؟ وهل يعتبر ذلك كله مجرد وجهة نظر أم زلة مهنية؟

على أن ذلك كله قد يكون مفهوماً عند النظر إلى أن كاتب التقرير هو توم أوكونور الذي لطالما كانت تغريداته في "تويتر" تحديداً تبدو تكراراً للبروباغندا الرسمية في سوريا، حتى لو كان صحافياً يكتب في مجال السياسة الخارجية منذ سنوات، كما أن منتقدين سوريين وغربيين، من بينهم صحافيون، انتقدوا مراراً تقاريره عن الشأن السوري بوصفها متحيزة وتشكل إحراجاً لوسائل الإعلام التي تنشرها، تحديداً "نيوزويك". ويمكن الدلالة على ذلك بتغريداته التي يصف فيها فريق الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" الذي يعمل على إنقاذ المدنيين من القصف العشوائي بعبارة لا يمكن رصدها سوى في الإعلام الرسمي: "إرهابيون".


الغريب هو تصدير المقال على الغلاف مع التركيز على فكرة الهزيمة الأميركية في سوريا. وترصد آراء خبراء من بينهم السفير الأميركي السابق في سوريا روبرت فورد. لكن تلك الهزيمة لا تعني انتصار الأسد أو محور حلفائه الذي يضم أعداء الغرب كروسيا والصين وإيران. لأن الولايات المتحدة كانت لاعباً بين لاعبين متعددين ورأت أن الغوص في ذلك المستنقع ليس مفيداً أصلاً فلم تكبد العناء. لكن تصدير الرؤية المعاكسة على أنها الحقيقة التي يجب مجادلتها هو ما يثير الاستياء حقاً لدى قراءة التقرير.

المثير للاهتمام هو الاستماتة في الجانب الموالي لتقديم المقال على أنه انقلاب في الواقع السياسي، رغم أن التقرير نفسه يدين الأسد إلى حد ما أو على الأقل يوجه له اتهامات بارتكاب الفظائع في سوريا، علماً أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلنيكن أكد مجدداً الأربعاء الموقف الأميركي المعارض لتطبيع العلاقات مع الرئيس السوري بشار الأسد، رغم الانتقادات المتزايدة حول الصمت الأميركي الذي من شأنه أن يعكس قبولاً ضمنياً بذلك، حسبما أفادت وكالة "فرانس برس"، لكن "نيوزويك" ترى أن ذلك سيتغير في المستقبل بضغط من حلفاء واشنطن الذين سارعوا لتطبيع علاقاتهم مع دمشق لاعتبارات ضيقة، مثل الإمارات والبحرين وأخيراً الأردن.

بالتالي يمكن تفهم حالة طوفان السعادة الذي أصاب الموالين عند رؤية مقال حقيقي يكتب كلمة إيجابية بحق الأسد، في وقت كان فيه الإعلام الرسمي السوري طوال عشر سنوات ينشر مقالات مختلقة لكاتب متخيل لا وجود له باسم هنريك بانتينوي على أنه "كاتب مرموق" في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية. ونشر عاملون في الإعلام الرسمي صورة الغلاف وكتب آخرون عبارات الغزل بعيون الأسد الملونة التي تزين أغلفة المجلات، وقارن بعضهم بين صورة بشار وصورة أبيه حافظ على غلاف نفس المجلة قبل عقود، على أنها "استمرار للعظمة"، رغم أن تلك المقاربة لا يمكن إلا أن تدل على ما ثار من أجله السوريون وهو الإصلاح السياسي في بلد تحكمه عائلة واحدة بقبضة حديدية منذ سبعينيات القرن الماضي.



على أن ظهور الأسد بشكل مغاير كان ليحدث نفس الأثر عن الموالين. فمثلاً لو كان "غلاف نيوزويك" مشابهاً لغلاف مجلة "إيكونوميست" البريطانية العام 2019 وظهر فيه الأسد واقفاً فوق كومة الخراب المسماة سوريا، لانتشرت الصورة في مواقع التواصل بين الموالين على أن "الأسد يقلع عيون أعدائه" أو أنه "مؤثر لدرجة لا يمكن تجاهلها" وغير ذلك. أما ما لا يمكن توقعه فهو أن وسائل إعلام النظام كانت تنتقد "نيوزويك" وتعطيها درساً في المهنية بانتقاد بعض العبارات التي لا يجب أن تصف بها الأسد، أي الوقائع التي تتحدث عن وجود ثورة في البلاد وعن الضحايا الذين سقطوا بيد النظام ونجاته فقط بسبب دعم الحلفاء، إذ يجب أن تكون السردية مشابهة لتلك التي تصل إلى غرف الأخبار المحلية مع تعليمات الجهات الأمنية، لا أكثر. هذا مؤسف وسوداوي وهزلي في نفس الوقت.

والمضحك في ذلك أن الخطاب الإعلامي للنظام السوري، والممانعة ككل في الواقع، يتميز بتناقض مذهل في شتم الغرب التناقض في شتم الغرب من جهة والاستماتة في الاعتماد عليه من جهة ثانية. ويعني ذلك أن إعلام النظام لطالما هاجم الصحف وشبكات الإخبار الغربية بالاسم من "نيويورك تايمز" إلى "سي إن إن"، بوصفها "شريكة في سفك الدم السوري" و"قائدة للحرب الإعلامية على الدولة السورية" وغيرها من العبارات الجوفاء، لكن تلك الوسائل تصبح فجأة منبراً للحقيقة التي "يحاول السياسيون إخفاءها عن الشعوب" عندما تنشر ولو كلمة تفيد الدعاية الرسمية، ويتم التركيز على جزئيات في النصوص الغربية وإهمال كل ما يمكن أن يسيء للسردية الحكومية. ويشكل ذلك في جوهره المعنى الحقيقي للبروباغندا.



لكن ذلك في الواقع ليس عشوائياً، لأن النظام نفسه يدرك أنه فاقد للمصداقية ويحتاج بالتالي إلى "جهات محايدة" تتبنى موقفه، بغض النظر عن دقة المعلومات التي يتم بثها. وغالباً ما يتم الاستناد في هذا الصدد على شخصيات غربية لا تحظى بالمصداقية أو مرتبطة بالكرملين في روسيا وتروج لأفكار ضد نظام الديموقراطية "Anti-Establishment"، مثل الناشطة الكندية إيفا بارتليت والبريطانية فانيسا بايلي والفرنسي بيار لوكوروف، ويصل الأمر عادة حد اختلاق شهادات مزيفة مثلما فعلت وكالة "سبوتنيك" الروسية العام 2017 التي اختلقت بياناً لمنظمة "أطباء سويديون بلا حدود" حول فريق الدفاع المدني السوري "الخوذ البيضاء" ومجزرة الكيماوي في خان شيخون العام 2017.


ومن الممكن والمفهوم أن تكون ردة الفعل الطبيعية تجاه الغلاف دراماتيكية حتى على الطرف المقابل عبر وصفها بالـ"فضيحة" على حد تعبير الدكتورة بينت شيلر، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة "هاينريك بويل" الألمانية ومؤلفة كتاب "حكمة لعبة الانتظار السورية: السياسة الخارجية السورية تحت حكم آل الأسد". فأجل، الأسد انتصر وضمن البقاء ربما، لكن ذلك الانتصار يبقى فارغاً، فبدلاً من تحقيق الأمن والنظام في البلاد فإنه جلب عليها الخراب، وشرد شعبها ودمر الاقتصاد وسقط نصف مليون سوري ضحايا بفعل شعار "الأسد أو نحرق البلد"، ولم يعد لدى النظام ككل ما يقدمه لمن تبقى في البلاد سوى انقطاع الكهرباء وسطوة الميلشيات والوعود بإيجاد مخرج من المأزق المستمر، وستظل بلاده مستضعفة ومنقسمة مع تحولها إلى كانتونات متصارعة.

المؤسف أن الإدارة الأميركية ربما تتجاهل ذلك منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وبات الأمر أسوأ مع وجود رئيس يخطئ في أسماء مساعديه والمقربين منه ويبدو نائماً أشبه بميشال عون في بيروت، لأنه حتى من وجهة نظر سياسية قائمة على المصالح البحتة فقط، فإن بقاء الأسد يشكل مشكلة للعالم ككل وليس فقط لواشنطن. لأن أساليب النظام القائمة على إثارة العداوات بين الطوائف الدينية داخل سوريا وأسلوب التهميش الذي يقوم عليه حكمه، مع وجود المعتقلات سيئة السمعة، لن تؤدي إلا إلى مزيد من التطرف على المستوى الإرهابي للكلمة، مع تحول سوريا إلى قبلة جديدة للجهاديين الذين تقول الولايات المتحدة أنها تحاربهم في الشرق الأوسط.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024