عقدان بعد 9/11: انتصار "طالبان" نكسة للجهاد العالمي؟

وليد بركسية

السبت 2021/09/11
من السذاجة الوصول إلى أحكام قطعية بشأن تحول حركة "طالبان" الأفغانية من عدو جهادي خطير إلى حليف يحارب الإرهاب نفسه، مثلما هو الحال في العديد من القراءات الغربية التي وصفت انتصار "طالبان" السريع في أفغانستان وعودتها إلى السلطة، بأنه "نكسة للجهاد العالمي"، وتجاهلت الأفعال الوحشية التي قامت بها الحركة في الأسابيع القليلة الماضية بحق صحافيين ومدنيين ونساء ومثليين جنسياً وغيرهم، وتاريخ الحركة نفسه منذ تأسيسها على يد الملا محمد عمر العام 1994، كمشروع مدعوم جزئياً بتمويل سعودي مخصص للمدارس الدينية.

وإن كان التساؤل مشروعاً وملحاً حول ما ستقوم به الحركة ودورها وإمكانية الاعتراف بها دولياً ضمن نقاش عقلاني، فإن القفز إلى استنتاجات حول تحولها إلى جانب الأخيار في العالم، مثلما فعلت صحيفة "فايننشال تايمز"، يبقى قاصراً، كما هو الحال في التقليل من شأن الحركات الجهادية التي مازالت قادرة على شن هجمات كبيرة أو منفردة مثلما أثبتت السنوات القليلة الماضي في باريس ومدريد ولندن وبروكسل ونيس وفيينا، وحتى في نيوزيلندا مؤخراً التي شهدت هجوماً نفذه "ذئب منفرد" تابع لتنظيم "داعش" الذي يبث دعاية بارعة عبر الإنترنت حتى اللحظة من أجل التجنيد والإلهام الجهادي، وسط إنكار رسمي وإعلامي لخطر المشكلة على حد وصف الباحث السياسي الأسترالي أليكس ريفشين.

على أن التصور السابق ينبع من فكرة شديدة العمومية تقول أن "طالبان" في الواقع ليست حركة جهادية عالمية، بل هي حركة قبلية متجذرة في المجتمع الأفغاني من دون طموحات عابرة للحدود، لكن تلك النظرية تسقط بالنظر إلى العديد من الشواهد التي تثبت العكس، بداية من علاقة الحركة بتنظيم "القاعدة" منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى هجمات 11/9 الإرهابية، وصولاً إلى الزمن الحاضر الذي تتبادل فيه الحركة الغزل مع "هيئة تحرير الشام" الجهادية في سوريا، في مشهد مثير للاهتمام يظهر طبيعة التقارب بين الحركات الجهادية التي تختلف في ولاءاتها وتتشارك قيماً واحدة تتعلق بالوصول إلى الخلافة الإسلامية.

ولعل تاريخ "طالبان" يظهر كيف يمكنها منذ سنوات طويلة التلاعب بالألفاظ والتقارب مع الغرب وتقديم وعود كاذبة. ففي العام 1998 أعلنت أنها ملتزمة بمنع أسامة بن لادن من شن هجمات على الأصول الأميركية من أفغانستان، لكن الحركة زعمت في نفس الوقت أن الولايات المتحدة لم تقدم أدلة على تورط بن لادن في تلك النوعية من الهجمات. وبعد 11 أيلول/سبتمبر، رفضت "طالبان" تسليم بن لادن وأفراد "القاعدة" الآخرين لواشنطن، معتبرة إياهم حلفاء ساعدوا في تحرير أفغانستان من الغزاة السوفييت.

وعليه، يبقى تحويل حركات مثل "طالبان" أو "تحرير الشام" إلى شركاء محليين يحاربون الإرهاب المتمثل بـ"القاعدة" حصراً، طرحاً سوريالياً في أفضل تقدير. وشكك تقرير للأمم المتحدة في حزيران/يونيو 2020 بإمكانية تحقيق مثل هذه الشراكة مع "طالبان" التي تصنف أصلاً كحركة جهادية، لأنه رغم الخلافات اللوجستية والمرحلية، فإن الجهاد أو الحرب المقدسة والتاريخ المشترك، يلزمان "طالبان" و"القاعدة" ومجموعات متطرفة أخرى، ما يضعهم جميعاً في خانة واحدة.

ما يجب النظر إليه هنا هو الاحتمالات، فخلال محادثات السلام في قطر العام 2020 والتي أدت إلى اتفاق لإنهاء الحرب، أكّدت "طالبان" للولايات المتحدة أنها لن توفر مأوى لمقاتلي "القاعدة" وأنها ستشرك السكان الأفغان في الترتيبات الجديدة للوضع السياسي والاجتماعي. لكن تحول أفغانستان إلى قبلة للجهاديين العالميين يبقى خياراً قائماً كما أثبتت الحوادث التاريخية. والأخطر أن الانتصار الإسلاموي للحركة سيصبح ملهماً لحركات أخرى من أجل تحقيق ما هو مماثل أو التفوق عليه، ضمن صراع داخل الحركات الجهادية نفسها على شرعية الأحق بالخلافة، وهو ما يمكن ملاحظته في التصريحات الأخيرة لزعيم "هيئة تحرير الشام" في سوريا أبو محمد الجولاني.

ورغم ذلك، فإن مجلة "جيوبوليتكال فيوتشرز" المرموقة تقلل من شأن دعم "طالبان" لحركات متشددة في العالم العربي، من مبدأ أن كثيراً من الحركات الإسلامية في المنطقة تركز على السياسة لا العنف، وهو توصيف قد لا يكون دقيقاً تماماً في حالة دول مضطربة كسوريا والعراق. أما مجلة "فورين أفيرز" فتعطي النتيجة النهائية بلا مجاملات وهي أن معتقدات أسامة بن لادن التي تشكل الدليل العام للجهاديين في العقدين الأخيرين ركزت على "كسر هاجس الخوف من الإله الزائف"، أي الديموقراطية و"تدمير أسطورة أميركا التي لا تقهر".

وفيما خلفت الحرب على الإرهاب ما يقرب من مليون ضحية و37 مليون نازح فقدوا حياتهم بحسب مشروع تكاليف الحرب التابعة لجامعة "براون"، فإن الجانب الإنساني ليس مبعث الارتياح لـ"نهاية الحرب على الإرهاب" اليوم، في كثير من الصحف الغربية، بل هي المصالح التي ترى أن هنالك أموراً أهم يجب التصدي لها مثل تغير المناخ والصعود المتسارع للصين وروسيا، مع عبثية الحرب الإرهابية التي ولدت إرهاباً إسلامياً متزايداً كردة فعل. وترى "فورين أفيرز" أن مكافحة الإرهاب يجب أن تبدأ بمعالجة المظالم السياسية المشروعة التي تدعي "القاعدة" أنها تناصرها، مثل دعم الولايات المتحدة للديكتاتوريات في الشرق الأوسط، على سبيل المثال.

ضمن هذا الجو، من السخف القول أن الجهاد العالمي ينتكس ويتراجع بل هو قائم وملح على حد وصف رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بليز في كملته أمام معهد الأبحاث "روسي" قبل أيام، لأنه رغم تراجع الهجمات الإرهابية من ناحية الحجم فإن الإسلاموية عنفاً وأيديولوجيا، تبقى تهديداً أمنياً أول وفي حالة عدم مراقبتها خلف البحار فإنها سوف تنتشر في دول العالم كما أظهرت هجمات 11 أيلول/سبتمبر تماماً. والأكثر من ذلك أن الترحيب الإعلامي بحركات متشددة كـ"طالبان" يشكل نوعاً من التفكير قصير الأمد الذي يعطي انطباعاً بأن الغرب بات عاجزاً ولا يمتلك القدرة لحل المشاكل المستعصية، ما يعزز الشعور بالقلق على ضفتي الأطلسي أولاً ويمنح الحركات المتشددة أملاً من بوابة "أن وقت الغرب قد انتهى".

يلاحظ ذلك حرفياً في تصريحات لمتشددين إسلاميين في باكستان. حيث دعا الزعيم السياسي المعارض مولانا فضل الرحمن، الذي يدعم "طالبان" لكنه ينبذ الكفاح العنيف في باكستان، إلى ثورة إسلامية، في بلد إسلامي أصلاً، كما أبلغ سياسي آخر آكثر تشدداً هو مولانا حامد الحق، أتباعه بأن "طالبان أرست سلاماً وأمناً لا نظير لهما في افغانستان" وأثبتت عيوب الديموقراطية، ويجب أن تلهم "كفاحاً قوياً مماثلاً من أجل نظام إسلامي حقيقي"، وفق ما جاء في منشور وزعته الجماعة التي يترأسها.

وعليه، فإن الجماعات المتشددة غير العنيفة باتت تفكر من منظور أنه إذا كان الإسلام قادراً على حكم أفغانستان فلماذا لا يحصل ذلك أيضاً ضمن مجتمعاتها المحلية؟ وهو منبع الخطورة من القراءات الرومانسية الحالمة والرغبوية التي تصدق وعود "طالبان"، ما حذر منه مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون الذي يرى أن الحركة تعلمت من الحكومات الائتلافية في الدول الأوروبية الخاضعة للنفوذ السوفياتي كيف يمكن إخفاء الواقع السياسي بالشمولية المزعومة. وعليه، إذا صممت "طالبان" على الانخراط في هذه اللعبة فستسيطر على الوكالات الأمنية مثل الدفاع، والشرطة، والاستخبارات، وبقية الأمور هي دعاية تجميلية ومجرد ادعاء من البيت الأبيض المتردد في مواجهة تداعيات أخطائه.

تلك الأخطاء لخصها وزير الخارجية الأميركي السابق هينري كيسنجر في مقال نشرته مجلة "إيكونوميست"، ببأن الولايات المتحدة فشلت بسبب عدم قدرتها على تحديد أهداف قابلة للتحقيق، إذا لم تكن الأهداف العسكرية واضحة، بينما كانت الأهداف السياسية فضفاضة وغير واقعية، ما أدى إلى توريط البلاد في صراعات دون نهايات محددة، وخلافات سياسية محلية. واتضح أنه يمكن احتواء "طالبان" ولكن لا يمكن القضاء عليها، كما هو الحال تماماً مع "داعش" الذي مازالت فلوله موجودة في العراق وسوريا بانتظار لحظة مناسبة للعودة إلى المشهد بقوة.

وهنا يمكن تذكر الجملة الأيقونية من فيلم الرعب "سكريم": "They always come back" (إنهم يعودون دائماً)، ولا يتعلق الأمر هنا بقاتل متسلسل يرتدي قناعاً مخيفاً ويلاحق الفتيات الجميلات اللواتي يصرخن عبر الشاشات بإثارة، بل بحركات متوحشة تسعى لفرض الشريعة الإسلامية على ملايين البشر وفق نسخة القرن السابع من الإسلام الذي يفصل العالم إلى أهل الإسلام وأهل الكفر، ولا يعترف بحقوق المواطنة للجميع مثلما هو الحال في الديموقراطيات الحديثة. ويجعل الديموقراطية كفراً وهرطقة لا أكثر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024