توكل كرمان في "مجلس حكماء فايسبوك": جدل الخير والشر!

وليد بركسية

السبت 2020/05/09
لا يمكن إزاحة الانقسام الحاد في مواقع التواصل، بين طرفي الأزمة الخليجية، حول تعيين الناشطة اليمَنية، توكل كرمان، ضمن مجلس الإشراف على المحتوى الخاص بمنصتي "فايسبوك" و"إنستغرام"، جانباً، عند النظر في المجلس نفسه الذي اكتسب اسماً عربياً طريفاً هو "مجلس حكماء فايسبوك"، لأن ذلك الجدل العربي الصرف، المتوازي مع الصواب السياسي كتيار غربي يسهم في تشكيل ملامح العصر الحالي، يعبّر ربما عن جوهر المشكلة التي يمثلها قرار "فايسبوك" بإنشاء المجلس أساساً.

وعبرت آلاف التغريدات بالعربية في "تويتر" عن رفض لتعيين كرمان في المجلس، بالنظر إلى خلفيتها المحافظة وقربها من جماعة الأخوان المسلمين وموقفها من الربيع العربي، الذي ينظر له ضمن هذا السياق كحركة تخريبية دمرت الاستقرار في بلدان المنطقة مثلما تصوره الدعاية المرتبطة بالدول الخليجية التي رعت الثورة المضادة في المنطقة. وفي المقابل عبرت آلاف التغريدات الآخرى عن ابتهاجها بقرار عملاق مواقع التواصل الاجتماعي، مع إيمان بقدرة كرمان على تعزيز الصوت المسلم والعربي وتحديداً ما يخص القضية الفلسطينية، خصوصاً أن المجلس يضم شخصية إسرائيلية أيضاً.

بموازاة ذلك، كانت الصحف العالمية تشير إلى كرمان بوصفها فائزة بجائزة "نوبل" للسلام فقط، وتصدر ذلك الوصف المانشيتات العريضة، بشيء من الاحتفالية التي لا تخلو من السذاجة، ليس دعماً للمؤامرة الأخوانية على العالم، مثلما كررت بعض التغريدات الغاضبة في معرض تهديدها بحذف تطبيق "فايسبوك" نهائياً، بل من منطلق الصواب السياسي الذي اعتبر أصحابه أن كرمان تمثل إضافة مرحباً بها إلى مجلس "فايسبوك" الناشئ، من باب التعددية الجندرية والدينية والثقافية، لكونها امرأة مسلمة ومحجبة ومشهورة، وتتحدث في مقالاتها باللغة الإنجليزية، التي تنشرها أكبر وسائل الإعلام الغربية، بما فيها مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، عن حرية التعبير والديموقراطية.

وفيما يتم تصدير ذلك كانتصار صغير في وجه "الرجل الأبيض" و"القيم المحافظة"، فإن المشهد يبدو مختلفاً في العالم العربي، لأن كرمان، للأسف، ترى قيم الحرية والديموقراطية بعين واحدة، أي أنها تدعم تلك القيم عندما تكون لصالح أجندتها الإسلامية المحافظة فقط، ولا تدعمها عندما يتعلق الأمر بقيم أكثر ليبرالية، وهو ما تجلى في موقفها من الثورة المصرية ودعمها غير المحدود للرئيس المصري الراحل محمد مرسي الذي وصفته مرة بأنه "مانديلا العرب"، وزعمت مراراً بأن عهده كان واحة للحريات، رغم ما تميز به عهده القصير، من حملة قمع ضد المعارضين لحكمه، وإن كان مستوى ذلك القمع لا يقارن بما تشهده البلاد حالياً في عهد خليفته عبد الفتاح السيسي.

على أن التغريدات الرافضة لكرمان، تنظر إلى الموقف بعين واحدة أيضاً، ويعني ذلك أن العالم العربي بات منقسماً بين تيارين عريضين. الأول إسلامي داعم للربيع العربي وموجات التحرر من السلطات الاستبدادية. والآخر داعم لتلك الدكتاتوريات العتيقة مع رغبة في بقاء الوضع السياسي فيها على حاله دون أي تغيير. وفي الوسط بينهما توجد الأصوات الداعمة للحريات في المنطقة، والتي تنال العداء من الطرفين السابقين، تحت تهم متعددة قد تبدأ بالكفر والفجور ولا تنتهي بالعمالة للدول الأجنبية. ومن اللافت للنظر أن "فايسبوك" لم يختر في مجلسه واحداً من تلك الأصوات، رغم بحثه عن شخصيات بارزة، طوال عامين تقريباً، لتمثيل ثقافات العالم المتعددة، بل اختار كرمان، التي قد تكون بعض مشاركاتها (في صفحتها الفايسبوكية)، إقصائية بشكل يخالف معايير مجتمع "فايسبوك".

والجدل هنا يصبح ضمن الديموقراطيات الغربية. فالصحف المحافظة مثل "نيويورك بوست" عبّرت عن رفضها للمجلس بسبب تقزيمه للأصوات المحافظة واليمينية فيه لصالح الأصوات اليسارية. وذلك بالطبع جدل لا تمتلك دول الشرق الأوسط رفاهيته، مع عدم تطور البنية السياسية فيها نحو الديموقراطية التي تتضم أطيافاً طبيعية من التيارات السياسية بين اليمين واليسار، من دون أن يشكل الانتماء لأي اتجاه بينهما سبباً كافياً لتلقي شتيمة ما مثلاً. علماً أن الجدل نفسه في الغرب، يعبّر عن استقطاب آخر يمكن تلمسه في تطور حركات اليمين المتطرف الذي يهدم الديموقراطية نفسها بوصفه حركة ضد النظام "Anti-Establishment"، والذي لم يكن لينشأ ربما لولا وجود اليسار المتطرف وتصديره لقيم الصواب السياسي والحركات الإنسانية أكثر من اللزوم، والتي قد لا تخرج عن النظام الديموقراطي فقط، بل عن قيم المنطق البسيط أيضاً.

وهنا يحاول "فايسبوك" التصدي لكمية المشاكل الكبيرة التي واجهته في السنوات الماضية، وتحديداً مسألة الأخبار الكاذبة وخطاب الكراهية وغيرها. لكن المجلس نفسه أثار مخاوف على حرية التعبير بدل تعزيزها، لأن "فايسبوك" بات يمارس الرقابة بطريقة أكثر مؤسساتية مما كان عليه الحال سابقاً. ويضم المجلس حالياً 16 عضواً، مع خطط لتوسيعه إلى 40 عضواً في المستقبل. وفي البداية، سينظر المجلس في المحتوى الذي يعتبر أصحابه أنه حذف بالخطأ. وفي الشهور التالية، سينظر أيضاً في طعون المستخدمين الذين يرغبون في أن يحذف "فايسبوك" بعض المشاركات الموجودة أصلاً، وسيكون قادراً على إعطاء توصيات متعلقة بالسياسات المتبعة بناء على القرارات التي يتخذها.

وستتولى رئيسة الوزراء الدنماركية السابقة، هيلي تورنينغ شميت، رئاسة المجلس مشاركة مع ثلاثة أعضاء آخرين. ويضم المجلس خليطاً من الصحافيين، والقضاة، وناشطي الحقوق الرقمية ومستشارين حكوميين سابقين من مختلف أنحاء العالم، ومن بينهم: عافيا أسانطيوا أساري كوي، مدافعة عن حقوق الإنسان وتعمل في مجال حقوق المرأة وحرية الإعلام في أفريقيا. وإيفيلين أسود، أستاذة القانون وعملت محامية بارزة لصالح وزارة الخارجية الأميركية، ونجاد داد، المدافعة عن الحقوق الرقمية من باكستان. لكن أبرز الأسماء ربما يكون رئيس تحرير السابق لصحيفة "غارديان" البريطانية اليسارية، آلان راسبريدغر، وإيمي بالمور، المديرة العامة السابقة بوزارة العدل الإسرائيلية، بالإضافة لأستاذ القانون في جامعة "ستانفورد" مايكل مكنيل، أحد صوتين محافظين في المجلس.

وإن كان المجلس يتمتع بشيء من الاستقلالية المادية مع تأسيس صندوق مالي مستقل بقيمة 130 مليون دولار، إلا أن آلية عمل المجلس الطويلة جداً، والأشبه بالتوجه إلى محكمة عليا افتراضية، وانتظار أيام وأسابيع للوصول إلى نتيجة نهائية، تجعله يفقد معناه من الأساس بالنظر إلى سرعة انتشار المحتوى وسرعة استبداله بمحتوى جديد مع تغير المواضيع الرائجة بين لحظة وأخرى. وحتى مع افتراض نبل المجلس كهيئة تتحدى سلطة مؤسس "فايسبوك" مارك زوكربيرغ وتنحاز للأفراد، فإن شكله الحالي يجعله ذراً للرماد في العيون، لا أكثر.

ومن مشكلة الدعاية الخاصة بالانتخابات الأميركية العام 2016، إلى حذف صورة "فتاة النابالم" الشهيرة في نفس العام، أو الخلاف الذي دام ثماني سنوات بعد إغلاق "فايسبوك" حساب معلم فرنسي شارك صورة "أصل العالم" للفنان غوستاف كوربيت التي تصور الأعضاء التناسلية الأنثوية "بشكل واقعي" ما اعتبر ترويجاً للإباحية والعري وفق منطق الشركة، وعشرات القضايا الأخرى، فشل "فايسبوك" في تحسين معاييره المجتمعية، كما واجه اتهامات من ناشطين وصحافيين حول العالم بالتعاون مع السلطات المحلية ضد الأصوات المستقلة.

وتمثل حالة كرمان، كصوت يمثل الإسلام السياسي، نموذجاً مثالياً لتضارب وجهات النظر الذي سينشأ بلا شك مستقبلاً مع كل قضية تتم معالجتها من قبل المجلس. فمثلاً كيف سيتم التعامل مع قضايا تمس الدين الإسلامي أو تتطاول على المقدسات، حسب الوصف الشائع؟ وهل سينظر لكاريكاتير افتراضي عن النبي محمد مثلاً على أنه جزء من حرية التعبير أم كتعدِّ على مشاعر المسلمين؟ والأمر نفسه ينطبق على الأحداث السياسية في المنطقة، وسيمتد ذلك حتماً نحو التعبير عن هذه النوعية من القضايا في المجتمعات الغربية أيضاً.

وعليه، قد يكون السؤال عن القيم التي بات "فايسبوك" يتبناها ضرورياً، وما هي الحرية التي يريد الدفاع عنها. هل هي الحرية المتعارف عليها في الديموقراطيات الغربية والتي تقدس انتقاد السلطات السياسية والرموز الوطنية وتتحدى السرديات السائدة بما في ذلك قدسية النصوص الدينية أم النمط الشائع في المنطقة العربية من الحرية المجتمعية المكبلة بالقيود السابقة التي لا يجب التطاول عليها تحت تهم مختلفة، بحسب التقسيم الحضاري التقليدي الذي تحدث عنه المفكر الأميركي صاموئيل هنتنتغتون في تسعينيات القرن الماضي؟

وبالتالي هل ستشكل الرقابة المؤسساتية في الشركة نمطاً جديداً من الحريات الممسوخة بفعل الصواب السياسي الذي لا يميز أصحابه، تحت تحت اسم "الخير"، جوهر معركة الحريات في الشرق الأوسط تحديداً، بما يسهم في خلق سرديات مشوهة عن المنطقة، التي قد تتقاطع فيها مصالح شركات التكنولوجيا الكبرى تحديداً، ومنها "فايسبوك"، مع السلطات القائمة بوصفها ضامناً للاستقرار الذي يضمن بدوره الحفاظ على ديناميكية سوق ناشئة وكبيرة في المنطقة، وهو المنطق نفسه الذي تعاملت به الدول الغربية مع دكتاتوريات المنطقة، خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وبالطبع تبقى سلطة المجلس محدودة، حيث لا يمكنه التدخل في خوارزمية "فايسبوك" التي تعتبر مصدره قوته وتأثيره، لأن الموقع الأزرق نظرياً لا يمنع أحداً من التعبير عن رأيه وكتابته، لكنه يتحكم بالقدرة على إظهار وإخفاء ما يريده للمتابعين الآخرين. ومع البعد المؤسساتي الجديد للرقابة في الشركة وهذا المستوى من محاكم التفتيش الحديثة، فإن تحويل "فايسبوك" إلى جهة سلطوية تمتلك "التكنولوجيا الشريرة" قد لا يكون ضرباً من الخيال العلمي، خصوصاً أن مفاهيم الخير والشر والحق والباطل ظرفية ولا يمكن الحكم عليها من بوصلة الصواب السياسي الذي تتبناه خيارات الشركة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024