17 تشرين - الجزء الثاني.. والأخير!

زكي محفوض

الخميس 2020/05/14
مَن يمرّ في سهل عكّار أو يراه من مرتفَع، يخفت خوفه من المجاعة التي يفاقهما الانهيار الاقتصادي الحاصل. ثمة سكينة تغمر المارّ في ربوع لبنان هذه الأيام، حيث الزرع يهبّ لملاقاته على نحو غير مسبوق، كما جاء في صور السوشال ميديا وفيديوهاتها من غير منطقة. فقد قرّر شعب، سلبه حكّامه إرادته وقراره طويلاً، تسلُّم زمام الأمور بيديه وعَرقه.

ويعتري المارّ أيضاً، شعور بأن نجاته من عواقب الحَجْر والأزمات من بعده، ستكون في أيادٍ أمينة، تزرع، مشتاقة إلى محبّة الأرض وعطائها. وهذا الشوق لم ينبع من مساعدات طارئة قدّمتها منظّمات دولية، عبر منظمات غير حكومية، ولا من مساعدات وخطط حكومية معدومة، ما خلا مساعدات "المشروع الأخضر" (حتى نضوبها)، ولا من إغداق المصارف ورعايتها مشاريع منتِجة. نبع هذا الشوق، في مجتمعات أهلية، من "حب البقاء"، فالحياة عزيزة على كل المخلوقات.

إذا جاع الفلاح زرع، مقولة بسيطة لا تحتاج إلى فلسفة، ولا إلى منّة حزب أو توجيهات زعيم أو توصيات مسؤول. وهي تنتشل الناس من ذلّ صناديق الإعاشة. وتستردّ دورهم الحيوي، شيئاً فشيئاً، في العجلة الاقتصادية. مقولة تنأى باللبنانيين عن نهج الاستيراد الذي قضى على المنتجات المحلية، مصنوعات ومزروعات، والتي بلغت جودةً عالمية في ما مضى، وانتشرت في أرجاء المعمورة.

وكان أصحابها يضطرون إلى إتلاف المحاصيل وتكديس بقايا المصنوعات في الأقبية، لمصلحة منتجات خارجية مستوردة من سوريا، تركيا، الخليج، إيران، ومن الغرب والشرق، فقط لأنها "أقل كلفة"، كما كانت تردّد على مسامعنا حكومات الاقتصاد الحر في لبنان. فلا يتحفنا أحد من الأخلاف والطارئين في حصر كل الارتكابات في الأسلاف. فهذا السلوك المسيء والمهين هو من شيم كل أهل السلطة، مداورةً.

حالياً، يطالعنا وزراء سابقون يتفتّقون بانتقاد ممارسات وخطط لوزارات، عملوا هم وزراء فيها لسنين وفشلوا، وها هم اليوم يتراشقون بحجارة إخفاقاتهم. والحق أن منظرهم مقزّز وهم يلعبون أدوار العفّة.

من حيث المشهدية، ثمة رابط بين منظر السهول والجُلول المُبهج، وهي تستعيد خُضرتها التي كانت عليها سابقاً، وبين بدايات ثورة 17 تشرين النضِرة. رابط قد يخفى على أبناء المدن، كما على أبناء الريف، بعدما ضلّت الصلة بين المدينة والريف طويلاً. وذلك بسبب وقوع اللبنانيين منذ سنين، في سَكرة جني الأموال بالهيّن (وظائف ثابتة وفوائد) والعيش العصري... لا الكريم.

واستغلت السلطة سَكرتهم لكي تسوقهم إلى زرائب الإدارات العامة وتحشوها بـ"أصوات انتخابية"، لا ببشر منتجين. منهم مَن اعتنق الفساد وتمادى فيه. ومَن عاكسه الحظ أو أساء التزلّف، أُبعِد من بازار الاسترزاق الهيّن، فهاجر. ومِن المهاجرين مَن اغتنى، فعاد بشروط السلطة، ليعلق جنى عمره داخل خزينة مصرف جوفاء فارغة، مع بخل جاحظي في صرف السحوبات.

لا بد إذاً من توضيح ذلك الرابط بين اخضرار لبنان المستعاد، والثورة المستجدّة، لتهدئة أنفسنا قليلاً من كابوس "الآتي أعظم" الذي يتوعدنا به مسؤولون في هباء تصريحاتهم، والتأكيد على أننا قادرون على التغيير. فالهبّة الزراعية والثورة، كلاهما يبشّر بالتغيير. الزراعة انطلقت ليس دونما مخاطر، مصدرها احتمال تدخلات السلطة لتشديد الخناق على اللبنانيين الذي أخذوا عيشهم على عاتقهم. وأما الأخطار المحدقة بثورة 17 تشرين فقائمة من خارجها ومن داخلها. فقد كشفت هذه الثورة حقيقة مُرّة، حبلى بقَيح الاخفاقات الماضية الذي اعتمل في أجساد وعقول آهلي هذه الرقعة من العالم، سلطةً وشعباً. رقعةٌ اسمها "لبنان" وارد في المدوّنات التاريخية الغابرة كما في الأساطير.

ما زال فيديو تلك الصبية الجامعية، في بدايات الثورة، يحفر في الذاكرة. كانت تقف بين زميلاتها وزملائها في صرح جامعة القديس يوسف، تصدح غاضبةً على كلّ ما أفضى إلى حالنا المزرية المأسوية. قالت أشياء كثيرة... أنها ترفض التوازنات الطائفية والمحاصصات... وتريد الكهرباء والمياه والتعليم وفرص العمل... وأن ينعم اللبنانيون بعيش كريم... وتوجّهت إلى الأجيال السالفة فقرّعتهم بشدّة على خنوعهم وعجزهم، طوال 30 عاماً، عن مكافحة الفساد ومجابهة الفاسدين. صرخة تلك الصبية التي تعبّر كثيراً عن ثورة تولد من ذلك القيح، صاحبت انتفاض شابّات وشبّان صنعوا لأنفسهم لحظةً خارج الزمن اللبناني وخارج مناطق أمانهم وبيئاتهم، فأثارت في نفوسهم شعوراً بالمهانة لم يعترِهم بهذه الشدّة من قبل: لا مواطَنة ولا مواطنين، بل "أرزاق" مكتسبة بالفطرة، تتوارثها أطياف السلطة والطوائف لتوقد بها حروبها، ولا دولة إنما فاسدون شرهون.

فطفح كيلهم في ذلك التشرين، وثاروا رافعين شعار "كلن يعني كلن" الساطع، الذي ما لبث أن خفت بريقه ووهن عزمه، نتيجة نجاح أحزاب السلطة في إرجاع مناصريها إلى الحظائر. أفلت منهم مَن أفلت، لكن النوستالجيا إلى "الحزب" بقيت في نفوس كثيرين منهم، فأصيبوا بالحيرة والتردّد، حتى باتت الثورة بستاناً يقطف منه كلٌّ ما لذّ له وطاب. وترافق ذلك مع قمع عنيف لأولئك الذين صمدوا على الشعار، نفّذته فرق الـ"شيعة شيعة شيعة" الخيّالة والمشاة، وانفرد فيه عوني أطلق النار على ثوار جل الديب، نفّذ تياره عراضات جوّالة وحاول سرقة مطالب الثورة. وتولّى الاشتراكيون، على طريقتهم، مهمة القمع في الجبل. واحتدم القمع واستشرى التنكيل وكثرت الاعتقالات مع نزول الجيش والقوى الأمنية ومكافحة الشغب وحرس المجلس النيابي.

لم تبدر عن "القوات اللبنانية" ممارسات قمعية على الثوار بالعنف، لكن بالالتفاف على الثورة بالسياسة، تارة بتأمين نصاب جلسة الثقة بالحكومة، وطوراً بالمشاركة في قرارات كارثية في الجلسات النيابية الثلاث الأخيرة، في مبنى الأونيسكو. أما حزب "الكتائب اللبنانية"، فاستطاع اجتراح فسحة له في الثورة، وتجلى ذلك في مساهمته في التحركات وإيوائه ثواراً من جماعة "استهداف المجلس" (النيابي) أصيبوا في الليالي المشتعلة. لكن، لمّا التقى بعض الثوار مع رئيس "الكتائب"، سامي الجميّل، ثارت حفيظة المجموعات الأخرى. ألا يستحق بناء دولة من الصفر، نظرة جديدة إلى مكوّنات لبنانية أساسية، مهما كان الاختلاف معها عميقاً؟ والسؤال مجرّد السؤال عمّا صار إليه هؤلاء المختلفون؟

تخللت ذلك اختراقات للثورة من قبل أجهزة أمنية وجهات رسمية، وأطراف داخلية وخارجية، وما سمّي بـ"الثورة المضادة" التي مارس بعض مجموعاتها أعمالاً غوغائية ضد الشرائح الصامدة على الشعار الأساس. فتقلّصت أهداف الهتافات إلى حفنة من الشخصيات، وتشرذمت تحركات الصامدين الذين اكتفوا، بعد مرحلة معيّنة، بمسيرات أيام السبت.

لاحت تباشير "17 تشرين – Part 2" من خلال صوَر لأصحاب حسابات في السوشال ميديا، مزيّنة بشريط  كُتب فيه "17 تشرين راجعين". وهو يشبه سلفَيه "ضد القمع" و"لا ثقة" وغيرهما في قلّة الجدوى. فتلك الرُقَع الفنّية الجميلة في مواقع التواصل، تبقى فيها. ومع انطلاقه، لم يتغيّر السلوك الذي خلص إليه الثوار في نهاية الجزء الأول، أي الانقسام الحاد بين "استهداف المجلس" و"استهداف المصرف"، فيما بدا أن قوى أخرى تُذكي ذلك الانقسام. فانسحب كل إلى منطقته، حتى قبل حلول كورونا بكثير، وأقفرت الساحة السمحة، وظهرت الخلافات الغامضة، وأسبابها التي حالت دون وضع ورقة اقتصادية وخطة عمل توحي بالثقة. وانسحب ثوار طرابلس وعكار والبقاع، بعدما خذلتهم بيروت الشامرة أنفها، التي لم ينتفض مجمل أهلها إلا للمطالبة بعودة سعد الحريري، وها هو شطر منهم يُهرع حديثاً نحو أخيه بهاء. والمكوّنات "الثورية" في بيروت، لم تُحسن استقبال المناطق، فلم تهيء لهم أرضية جامعة، ولم تذهب إليها إلاّ في شكل نزهات متفرّقة. وعبّرت العاصمة عن امتعاضها من الثائر الفعلي الذي خلع عنه زعماءه وتخلّص من غطائهم الزائف وساوته بـ"المدسوس". وتركت ثوار الجبل وصيدا وصور والنبطية وكفرّمان وجل الديب يأكلون العصي، فيما هي تَعُدّها.

وفعلت الهتافات الإقصائية فعلها أيضاً في فض الجموع، وليس فقط أعمال القمع وتدخّلات الأجهزة. فتفتّت الإسمنت الضروري لرفع مداميك الثورة. وإذا كان بعض من ثوار 17 تشرين، يجهلون أنهم في صدد بناء دولة من الصفر، فمصيبة. وإذا كانوا يعلمون، فمصيبة أكبر، لأن قسطاً منهم (اليساريون بخاصة) عمل على إقصاء شرائح كبيرة من جماعات لديها رغبة عارمة في التغيير. وذلك على رغم الادّعاء بأن الثورة أطياف لا بد أن تتجانس، وأنه لا رأس لها، لكنّ أحداً لم يسعَ إلى تحقيق التجانس المنشود.

وبدت محاولات الجمع ورصّ الصفوف متعثّرة، لم ترقَ إلى مستوى ورقة عمل مشتركة تطمئن جمهور الثورة إلى أنها قادرة على تحمّل المسؤوليات الجِسام، أي ما بعد انتخابات نيابية مبكرة، لو نجحت في انتزاع مطالبها. وتفاقمت الخلافات بين المجموعات، وبلغت حد العجز عن إقرار مسائل تافهة مثل: إلغاء سير شاحنة الصوتيات (وأغاني "الراجع يتعمّر") في مقدّمة التظاهرة، لكي يتاح لـ"القاعد على البلكون" سماع الهتافات والتفكير فيها، عسى ولعلّ. مسائل كهذه كان صعباً جداً حسمُها.

ليس أمام الجزء الثاني، لكي يستعيد جذوة النضال ويستحق تسمية "ثورة" من جديد، سوى الحنين إلى الأيام الأولى، إلى الجزء الأول. لكن العمل على استرجاعها، ملأى بالزخم، يستدعي هذه المرة بذل جهود كبرى في قراءة الأوضاع وتأثيراتها، وفتح جردات في سياسات مكوّنات السلطة وأحزابها وشخصياتها وسياسييها، تبدأ بوضع معايير واضحة لتثقيلها منهجياً من خلال استلهام الدستور اللبناني، ولا تنتهي بكشف مساهمة كل منها بالفساد. وذلك لتعزيز "كلن يعني كلّن" الذي صار، أخيراً، يُهتف للاستدارك ورفع العتب، بعدما أُفرِغ من مضمونه: غاب منه "حزب الله" الذي عارض الثورة سياسياً وميدانياً، وتخويناً وقمعاً، وصارت أسماء بقية مكوّنات السلطة تُطلق حسب المزاج، وحسب المنطقة التي تمرّ فيها المسيرات الويكأندية... وحده "هيلا هو" استمر يشمله الشعار.

استُهلّ الجزء الثاني بهجمات على المصارف بدت منسّقة على كامل الأراضي اللبنانية، من طرابلس إلى صور، بهدف زعزعة سلطة المصارف وعلى رأسها رياض سلامة. واستطاعت جهاتٌ خلع صفة "الداعشية" تحديداً على الهجمات التي حصلت في طرابلس دون سواها. وماذا فعل الثوار حيال ذلك؟ شكّلوا وفداً إليها، بكمّامات الوقاية، لمواساة ثوارها بتربيتة على الكتف، وأيضاً تقديم العزاء بالشهيد فواز السمّان. تلا ذلك صمت مطبق، رافق إعلان الخطة الاقتصادية الانقاذية لحكومة "لا ثقة"، والتي تتضمّن طلب مساعدة صندوق النقد الدولي التي يرفضها الثوار كما يرفضون الحكومة. صمت وهدوء، كأن سلطة المصارف تقوّضت وتحقق الهدف. وماذا كانت النتيجة؟ أغلقت المصارف أبوابها في المدينة "الداعشية قسراً وكيداً"، وصار أقرب مصرف، على أي طرابلسي يود إجراء معاملة ضرورية أو يحتاج إلى أن "يشحد" نذراً ضئيلاً من أمواله المنهوبة، يقع على بعد 18 كيلومتراً من "عروس الثورة".

الرهان على جوع الناس وفقرهم لكي يثوروا، ينطوي على مغامرة مجهولة النتائج. الثورة لن تنظّف نفسها ما لم توجد لدى مجموعاتها نية وعزم على تنقية نفسها. ولكي تنجح عملية التنقية، ينبغي للثورة أن تكون أكثر ترحاباً ورحابةً. فهل ستكتفي 17 تشرين باحتلال حيز عادي تافه في الحياة العامة اللبنانية، ليسهل على النظام ابتلاعها عندما يفرغ من استغلالها؟ أم أنها ستستلهم صحوة أهل الزراعة، إلى تحمّل مسؤولية حياتهم بالكدح والكد. ذلك أن الاستثمار في الأرض يشكّل "فرصةً للبنانيين لوضع السلطة، مع مكوناتها السياسية والمالية، في الحَجْر لانتفاء فائدتها، والعمل على تأسيس دولة حقيقية، تبدأ من سلطة العمل وتقضي على الأجهزة الطفيلية المنظّرة في التخطيط. فالأرض تخطط لنفسها كيف ستعطي من رعاها".. خذوها من تعليق كتبه الفنان الإيمائي، فائق حميصي. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024