.. بل أحببتُ النارجيلة الثورية في تروكاديرو!

حسن مراد

الإثنين 2019/10/21
غالباً ما يحسدنا المقيمون في لبنان على اغترابنا. لكن مشهد الغضب الممزوج بحب الحياة والمتدفق من شوارع لبنان، عكَس الآية، نحن من بات يحسدهم على فرصة بقائهم في البلد لينالوا شرف المساهمة في تشييد حلم ما زال بعيد المنال.

حين انفجر لبنان، لم أعد أنتمي إلى المكان الفرنسي الذي أقيم فيه. أقلعت، بلا وعي، عن عادتي اليومية في تعقب مراسيم التجنيس الفرنسي بحثاً عن اسمي، فأخبار البلد باتت شغلي الشاغل. ظننتُ أنه وكالعادة، سيكون الفضاء الالكتروني متنفسي، إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي. كل المجموعات "الواتسابية" تحولت منصات لتبادل المستجدات: مجموعة أصدقاء الدراسة، مجموعة المتابعين للسياسة الفرنسية، حتى مجموعات النميمة لم تصمد، تهاوت كلها أمام الحدث الجلل. سريعاً، تحول هذا المتنفس إلى طوق يخنقني، لم تعد تشفي غليلي عشرات الفيديوهات والأخبار التي أشارك في تبادلها.

حين توجهتُ، السبت، مثل عشرات من اللبنانيين، للمشاركة في ورشة التحضير لتظاهرة الأحد، كنت ألهث خلف هدف واحد: الاحتيال على روحي وجوارحي لأشعر أني في لبنان.

لم أكن وحدي من يختزن تلك المشاعر. هاتفتني تينا صباحاً، والغيظ يقتلها: "عندي موعد بنص النهار، أخت هالشغلة، مش عارفة كيف أخلص منه حتى روح شارك بالتحضير". أما محمد، فشعر أن مسؤولية شخصية تقع على كتفيه لإيصال ما يتعرض له أهل الجنوب من عنف: "لازم العالم كله يشوف شو عم بصير، رح إحكي مع السفارة ببيروت بلكي بيقدروا يعملوا شي (وكان يقصد الديبلوماسيين الفرنسيين في لبنان الذين يعرفهم معرفة شخصية بحكم عمله)". حتى ناي، لم تطق روحها، سعت جدياً للنزول إلى لبنان حتى تتظاهر من قلب الحدث.

خلية نحل كانت تعدّ للتظاهرة في أحد المطاعم اللبنانية. بمزيج من الحماسة وتأنيب الضمير، كنا نود أن نثبت لأنفسنا مدى ارتباطنا بوطننا. تسأل كريستيل: "ناقصنا أعلام لبنانية، مين في يساعدنا حتى نأمنهم؟"، ويهب العشرات لهواتفهم يتصلون بمعارفهم لتأمينها من دون تنسيق في ما بينهم.

لم يزعجني دوام عمل الليلي يوم السبت، فمنسوب الأدرينالين المرتفع كانت ستنتج عنه حالة من الأرق في كل الأحوال. الدوام انتهى فجر الأحد، ساعتان من النوم المتقطع كانتا أكثر من كافيتين. لم أكن أسير في اتجاه ساحة التظاهر، بل كنت أطير إليها.

منذ أن وطأت قدماي أرض فرنسا، وأنا أشارك في تظاهرات واعتصامات مؤازرة لقضايا عربية: الحروب على غزة، الربيع العربي، المآسي السورية، طلعت ريحتكم... لكن هذه المرة كان لها طَعم مختلف.

سمعت وقرأت مراراً عبارة "اختناق الصوت"، وحتى يوم الأحد ظننتها مجرد تعبير مجازي. فور اكتمال عدد المنظمين، بدأنا نفرد علماً لبنانياً ضخماً على أنغام "كلنا للوطن". في تلك اللحظة، اختنق صوتي فعلياً، لم تهتز حنجرتي، شعور مرعب لم أختبره إلا في بعض الكوابيس.



في ساحة "تروكاديرو" الباريسية، تولت مجموعة منا توفير مساحة للصحافيين ومعداتهم لتغطية التظاهرة من نقطة مرتفعة. لم يزعجني مئات المتظاهرين الذين حاولوا التذاكي علينا، على الطريقة اللبنانية المعهودة، لاعتلاء ذاك المكان الاستراتيجي. بعفوية كنت أخاطبهم بالعربية، افترضتُ أن كل من في الساحة مغترب لبناني، رغم إدراكي لوجود فرنسيين. حتى عندما رأيت نارجيلتين في وسط الساحة، على غرار التظاهرات في لبنان، لم يزعجني المشهد إطلاقاً، بل كنت متعطشا لأشعر أني في محيط لبناني أياً تكن الوسيلة.

ساعتان وانتهى تصريح التظاهرة، لكننا لم نكن قد شبعنا بعد. انتقلنا إلى دهاليز المترو، وسط ذهول الفرنسيين والسياح الأجانب. أرادوا معرفة من أي بلد نحن، وما الذي نهتف به. لم نكترث لحقهم هذا، إذ كنا نتشتت عند كل محطة، فتوجب علينا استغلال اللحظات الأخيرة حتى الثمالة.


قد تكون الإيجابية اليتيمة في اغترابي، أني لمست ارتدادات الحدث اللبناني خارج حدود بلاد الأرز. العديد من الأصدقاء العرب حضروا إلى الساحة لإدراكهم أن مآسيهم من مآسينا، وإن اختلفت الصورة: هتفوا ودبكوا معنا كما شاركونا في شتم سياسيينا.

زوجتي مَيس، كسرت، يوم الأحد، حاجزها النفسي مع لبنان. ميس التي تخشى زيارة هذا البلد لما يتبادر إلى مسمعها من إجراءات عنصرية بحق اللاجئين فيه من أبناء شعبها الفلسطيني. ميس ضُبطت متلبّسة وهي تنشد معنا: كلنا للوطن، للعُلا للعلم.. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024