واشنطن تسحب جنودها عن الحدود: الخيبات الكردية تتجدّد

وليد بركسية

الإثنين 2019/10/07
إعلان البيت الأبيض سحب ما تبقى من القوات الأميركية الموجودة في سوريا، مع تأهب تركيا لشن عملية عسكرية هناك إثر اتصال هاتفي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، لم يثر الحسرة والصدمة في مواقع التواصل الاجتماعي، وبدا أن الناشطين الأكراد تحديداً، يتذكرون تلك المشاعر الدرامية بدلاً من الشعور بها فعلاً، عطفاً على تاريخ طويل من الخذلان يربط القضية الكردية بالدول "الحليفة".

وهي ليست المرة الأولى التي يبكي فيها الأكراد عزلتهم، لا سيما عند إعلان ترامب الانسحاب الأميركي من البلاد أواخر العام الماضي والذي تحول في وقت لاحق إلى مجرد خفض لأعداد الجنود الأميركيين، بشكل عكس حينها التناقضات بين البيت الأبيض ووزراتي الخارجية والدفاع "بنتاغون". بل إنهم عانوا "الخذلان" الأميركي في مواقف متكررة خلال السنوات الماضية، بما في ذلك عملية غصن الزيتون التركية في منطقة عفرين، التي لم تمنع الولايات المتحدة حصولها، إضافة للموقف الأميركي السلبي من الاستفتاء الكردي في العراق على الاستقلال.

ومع استذكار تلك الأحداث القريبة، أشارت التعليقات إلى تاريخ أطول من الخيبات الكردية، وتحديداً إلى دولة مهاباد التي ظهرت لفترة محدودة في أربعينيات القرن الماضي في إيران الحالية، وانتهت حينها بسبب "الخذلان" السوفياتي للحلفاء الأكراد. وفيما استخدم بعض المعلقين كل تلك الأحداث، وغيرها، للشماتة في الأكراد، من منطلق عنصري تقريباً بوصفهم "مطية للقوة الأجنبية"، إلا أن استخدام الناشطين الأكراد لها، أتى للدلالة على إدراكهم بأن اللحظة الحالية كانت متوقعة، ولا تستحق بالتالي سوى رد فعل بسيط، لا يتخطى عبارات مثل "أميركا للمرة الألف تبيع الأكراد" أو "لن يبقى للكردي إلا الريح".

بعكس ذلك، مالت تعليقات إلى إنكار للواقع، بالمراهنة على خلاف بين وزارة الدفاع "بنتاغون" والبيت الأبيض، سيمنع الانسحاب الأميركي وأي عملية تركية ضد الأكراد شمال شرقي سوريا. لكن تلك الرؤية الرومانسية تبقى تفكيراً بالتمني في أفضل الأحوال، لأن عشوائية الإدارة الأميركية وصداماتها الداخلية منذ وصول ترامب للسلطة، لم تؤدّ عموماً إلى عكس رغبات الرئيس الآتي من عالم البزنس، بل إلى تأجيلها فقط، كما أن ترامب تخلى عن الكثير من الأصوات المختلفة عنه ضمن الإدارة واستبدلها بشخصيات أخرى بناء على عامل الولاء الشخصي.

ولعل الخلاف الضمني في توصيف مستوى العلاقة الكردية الأميركية، هو ما يجعل من ردود الأفعال متنوعة ضمن العرض السابق. فبينما يرفعها البعض إلى مستوى حلف استراتيجي يتقاسم فيه الطرفان قيماً متشابهة ومصالح متشابكة، خصوصاً أن الأكراد كانوا قوة أساسية في هزيمة تنظيم "داعش" على الأرض... ينظر إليها آخرون كعلاقة استغلالية على مر الزمن تجعل الأكراد ضحية تستحق التعاطف أو الشماتة، بحسب الموقف السياسي المسبق.

لكن التوصيفين السابقين لا يلامسان الواقع ربما، وهو أن الأكراد كانوا شركاء أمنيين للولايات المتحدة أكثر من كونهم حلفاء رسميين أو أدوات رخيصة لمخططاتها، وهو توصيف يتناسق مع الطريقة التي اعتمدها صانعو السياسة الأميركية منذ عقود، لإدارة علاقات واشنطن مع العالم منذ الحرب العالمية الثانية، التي أدت لتغيير جذري في النهج الأميركي الخاص بالعلاقات الدولية، وقعت بموجبه واشنطن معاهدات أمنية رسمية متفاوتة من حيث الالتزامات مع 23 دولة حتى العام 1955، وتوسع العدد إلى 37 دولة بفعل توسيع حلف شمال الأطلسي "ناتو" في فترات زمنية مختلفة، وهو الحلف الذي يضم تركيا بطبيعة الحال.

بالطبع لا يشمل ذلك الأكراد، الذين يطاردون حلم الاستقلال في دولة مهما كان شكلها، منذ عقود، كما أنه لا يشمل حتى دولاً مقربة من واشنطن كإسرائيل والسعودية. حيث اختارت واشنطن في كافة معاهداتها الأمنية حلفاء لا يميلون إلى جرها إلى حروب غير مرغوب فيها، لخلق استراتيجية "الردع الموسع" التي تحبط أي محاولات للهجوم على الدول الحليفة ما يسهم بدوره في خلق نفوذ أميركي أوسع حول العالم. وفي الوقت نفسه، سمحت الشراكات الدفاعية القائمة على مبيعات الأسلحة والتنسيق الاستخباراتي لواشنطن بالانسحاب من النزاعات الخطرة، من دون تعريض حياة الجنود الأميركيين للخطر، وهو ما حصل في حالة الهجوم الحوثي/الإيراني الأخير على منشآت النفط السعودية، ويمكن عكسه أيضاً على الموقف من أكراد سوريا.

وهنا انتقد ناشطون أكراد، بيان قوات سوريا الديموقراطية الذي وصف الإعلان الأميركي بأنه خيانة، وكرر بعضهم: "أميركا لم تخن قسد، هناك اتفاق وعقد بينهما، ويبدو أن مدة العقد انتهت". وهي عبارة تلخص حجم العلاقة، وإن كانت لا تضع حداً للمخاوف لما قد يحصل في المستقبل القريب، وبالتحديد إمكانية استفادة تنظيم "داعش" من الفوضى المحتملة في المنطقة لإعادة تنظيم صفوفه، والتي قد تتفاقم بالنظر إلى السجون الداعشية التي تديرها قوات سوريا الديموقراطية.

وهكذا، مع تفضيل الولايات المتحدة لعلاقاتها مع الدول الإقليمية، يبقى الأكراد الخاسر الأكبر في المشهد السوري المعقد، اليوم، وباتوا مهددين، ليس فقط بخسارة منطقة الإدارة الذاتية التي قاموا بإنشائها شمال شرقي البلاد، بل أيضاً بتطهير عرقي، بحسب وصف وسائل إعلام عالمية، عبرت مجدداً عن مخاوفها بهذا الخصوص، ما أحال النقاش بدوره في "فايسبوك" و"تويتر"، نحو خيارات الأكراد للتصرف أمام أي هجوم تركي محتمل على شرق الفرات، مع الإشارة إلى أن أنقرة لطالما رأت في الوجود الكردي على حدودها الجنوبية، مصدراً للقلق بسبب ارتباطات أكراد سوريا المفترضة مع حزب العمال الكردستاني المحظور.

وإلى جانب خيار المقاومة والتهديد بورقة الأسرى الدواعش، برز خيار التواصل مع النظام السوري وحلفائه كي يملأ الفراغ الذي سيخلفه رحيل القوات الأميركية، بوجه التوغل التركي. ما استدعى رفضاً من ناشطين أكراد آخرين ذكروا بالموقف القديم من النظام الذي عامل الأكراد طوال عقود كمواطنين من الدرجة الثانية وحرمهم من حقوق بسيطة كالتعليم والحصول على بطاقات شخصية. وكلها خيارات مؤلمة وتعني بلا شك تدويراً للمظالم التاريخية المتراكمة في المنطقة، ضمن دائرة مفرغة لا تترك مجالاً كبيراً للغفران والمصالحة، وتهدد بدوامة عنف، تبدو أبدية، في المستقبل.



©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024