"عروسة داعش".. من زفّها من الغرب إلى سوريا؟

وليد بركسية

الجمعة 2019/02/22
مع انهيار "دولة الخلافة" المزعومة التي أقامها تنظيم "داعش" في العام 2014 كاسراً بها الحدود التقليدية التي بقيت صامدة في الشرق الأوسط لنحو 100 عام، باتت قضية المقاتلين الأجانب في التنظيم، مشكلة أسست لانقسام حول كيفية التعاطي مع أولئك الذين اختاروا في يوم ما التخلي عن أوطانهم بحثاً عن وطن جديد يكون لهم فيه نفوذ ومكانة تحت راية "الدين الإسلامي" و"الجهاد" وأوهام الجنان الأسطورية.


وطوال الأسبوع كانت قضية "عروسة داعش"، الحدث الأول في الصحف البريطانية والأميركية والألمانية، وهي التسمية التي أطلقت على عدد من النساء اللواتي تركن بلادهن قبل سنوات واتجهن إلى سوريا والعراق حيث تزوجن رجالاً من عناصر التنظيم، وتحولن اليوم إلى صداع في رأس حكومات العالم وشعوبها، ليس فقط بسبب بكاء أطفالهن أمام الكاميرات في مخيمات أقامتها "قوات سوريا الديموقراطية" شمال شرقي سوريا، بل بسبب عدم وجود حل سحري ينهي تلك المشكلة بوصف أولئك الأفراد خطراً إرهابياً حقيقياً لا يمكن تجاهله.

وكان قرار لندن بإسقاط الجنسية البريطانية عن شاميما بيغوم (19 عاماً) شجاعاً في وجه حملة امتلأت بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حاولت تصوير "عرائس داعش" الأجنبيات، كضحايا يجب التعاطف معهن بدلاً من كونهن في الحقيقة خطراً حقيقياً، وهو جدل قد يكون مبرراً، من ناحية الحديث عن مسؤولية الدول الأجنبية مع مواطنيها "الدواعش"، لأن التخلي عنهم يكرس فكرة الدولة الإسلامية ودعايتها التي ستركز من دون شك في المستقبل على خلق وهم بوجود مظالم ضد المسلمين في الغرب، وبالتالي الاستمرار في تجنيد الإرهابيين للقيام سواء بهجمات منفردة أو حتى السعي لإحياء تنظيم "داعش" بصيغة جديدة، كما حصل تماماً بعد الانسحاب الأميركي من العراق العام 2011 ونشوء التنظيم بصورته الحالية.

وامتلأت صحف كبرى مثل "فايننشال تايمز" و"واشنطن بوست" و"غارديان" بمقالات رأي تتحدث عن ضرورة التعامل بإنسانية مع بيغوم ومثيلاتها، بينما كانت صحيفة "إندبندنت" متطرفة في الترويج لتلك الفكرة إلى حد نشر رسالة من والدة جهادي بريطاني سابق قتل في سوريا قبل سنوات، تتضامن فيها مع بيغوم بوصفها ضحية للمجتمع ونظام الهجرة وإهمال العائلة، رغم أن المتابع لتصريحات "عروسات داعش" يلاحظ نمطاً مروعاً من إنكار وجود مشكلة من الأساس، بل هناك تماه مع الواقع المحيط فقط لتحقيق منفعة شخصية.

والحال أن تصدير الإعلام العالمي لهذه الصورة عن المسلمات يعزز الصورة النمطية في الغرب عن النساء المسلمات بوصفهن خاضعات ومسلوبات الإرادة ولا يمتلكن شيئاً من حريتهن أو قرارهن الشخصي، سواء كن محجبات أو لا. وبعض النظر عن أن النساء في المجتمعات المسلمة يكافحن ويحتجن فعلاً للتحرر من الوصاية الذكورية والدينية، فهذا السياق لا علاقة له بموضوع "عرائس داعش" اللواتي اتخذن قراراً واعياً بالتخلي عن أوطانهن الأصلية للانضمام لدولة الخلافة المنشودة، وهو فعل من أفعال الخيانة الوطنية بلا شك، كما أن تصويرهن فقط كضحايا مقابل تجريم الذكور الأجانب في صفوف التنظيم، يحمل بعداً عنصرياً ضد الذكور والإناث على حد سواء من ناحية جندرية.

ومنذ ظهوره في سوريا والعراق، اعتمد تنظيم "داعش" على مقاطع الفيديو الدعائية المصورة بطريقة سينمائية لجذب الأنظار إليه ونشر دعايته لتجنيد مزيد من المقاتلين الأجانب إليه، أكثر من أي تنظيم جهادي كآخر مثل "القاعدة". كما أنه أحدث خرقاً مع بقية التنظيمات التكفيرية في طريقة التعامل مع النساء ومنحهن مكانة لا تقتصر فقط على جعلهن ربات منازل، فدرّب الجهاديات على استخدام الأسلحة ومنح النساء دوراً في نشر الدعاية عبر الإنترنت. وقبل أن تفقد الجماعة معقلها الأهم في الموصل، نفذت مجموعة من الانتحاريات عمليات تفجير ضد القوات العراقية، كما أسس التنظيم فئات من قوات "الحسبة" المكونة من النساء في مدينة الرقة السورية عرفت باسم "كتيبة الخنساء".

وتشير حالة "عرائس داعش" إلى المصاعب السياسية والأمنية والقانونية التي تواجه الحكومات الأوروبية، التي تناقش السماح لمئات الرجال والنساء الذين غادروا للقتال مع تنظيم "داعش" بالعودة. علماً أن التوتر حول كيفية تعامل الدولة الأوروبية مع الراديكاليين الإسلاميين الذين شاركوا في الحرب الأهلية السورية أمر مطروح منذ فترة طويلة. فيما يشكل القلق الأمني السبب الأساسي لتردد الدول الأوروبية في استقبال أولئك الإرهابيين، فقال مدير الاستخبارات الخارجية البريطانية "أم آي6" أليكس يانغر، مثلاً، أن هؤلاء المقاتلين "ربما حصلوا على المهارات والصلات التي تجعلهم خطراً".

وباتت القضية مسرحاً للتجاذبات الحزبية والانتخابية وتسجيل النقاط السياسية، وهي لعبة انجرت إليها وغذتها وسائل الإعلام أيضاً. فالصحف الليبرالية البريطانية قالت أن المشكلة تعود لتغذية حكومة تيريزا ماي، المحافظة، للإسلاموفوبيا في البلاد وقلة الإنسانية لديها، وكان الحال مشابهاً في الولايات المتحدة التي تعددت فيها الرؤى تبعاً للانقسامات الحزبية بين الديموقراطيين والجمهوريين ضمن رئاسة ترامب، في وقت بدأت فيها الاستعدادات للانتخابات القادمة العام 2020.

وتؤكد دراسة نشرها المركز الدولي لدراسات التطرف التابع لـكينغز كولدج" في لندن في تموز/يوليو 2018 أن عدد الأجانب في صفوف "داعش" يبلغ 41490 شخصاً، من بينهم 4761 امرأة و4640 طفلاً من 80 دولة، معظمهم من الشرق الأوسط وشمال أفريقياً، علماً أن عدد الأجانب الملتحقين بالتنظيم من بريطانيا يقارب نحو 850 شخصاً، بينهم 145 إمرأة وخمسين طفلاً.

ولعل الحيرة أمام الطريقة الأنجع للتعامل مع هذه الأعداد، تشير إلى مشاكل أكبر، لا تتعلق فقط بنظام الهجرة الأوروبي أو الإسلاموفوبيا، بل أيضاً بجذور العنف في الإسلام نفسه، والتي تنجح الدعاية الجهادية في تحويلها إلى عقيدة وأسلوب حياة. ومهما كان الخيار المتخذ بحق "عرائس داعش" وأطفالهن فإنه سيشكل مادة لدعاية جهادية جديدة في المستقبل، خصوصاً أن قدرة "داعش" على تشكل دولة الخلافة ولو لفترة قصيرة، غيرت المعادلة إلى الأبد، وحولت أولئك المهاجرين إليها من انتماءاتهم الأصلية، كمواطنين فرنسيين أو بريطانيين أو أميركيين، إلى جيل جديد من المواطنين الإسلاميين، الذين تباهوا قبل سنوات بحرق جوازات سفرهم أمام عدسات "داعش".

ومع عدم وجود حل سياسي في دول الشرق الأوسط، فإن مشكلة الإرهاب ستبقى مستمرة في المستقبل مع مخاوف من قدرة "داعش" على بناء نفسه بسرعة بعد الانسحاب الأميركي من البلاد، وكانت الفتاوى الداعشية الموجهة للمهاجرين الأجانب متقدمة كثيرة عند تناول هذه  النقطة، فركزت على أن رابطة العقيدة أقوى من رابطة الدم والنسب، وأن قطع الصلة بالماضي القديم والتنكر للعائلة ليس إثماً ولا قلة أخلاق بل هو واجب جهادي ضد الكافرين، وعليه تصبح علاقة أولئك الجهاديين، ذكوراً أم إناثاً أم أطفالاً مع الدولة الأم، علاقة انتقام فقط، تحركها الفكرة الراديكالية بأن الغرب كافر وشرير، وبالتالي فإن مسامحتهم وإعادتهم للمجتمع بشكل طبيعي، بعد فترة من التحقيق قد تمهد لقيامهم بأدوار جهادية ودعائية مستقبلاً.

هذا المشهد المربك، يتزايد عند النظر للجدل الإعلامي حول إمكانية فصل الأطفال عن أهاليهم المجاهدين، وهو خيار سيعزز الدعاية الجهادية في حال تنفيذه، ويعزز الصورة التي تحكم العالم اليوم وهي أن العالمين الإسلامي وغير الإسلامي باتا لا يتسامحان مع بعضهما البعض، لأن السياسين في العالَمين يميلون لمخاطبة أصحاب الآراء القائمة على الخوف من الآخر، ما يرجع بالضرورة إلى فلسفة صراع الحضارات في عالم متغير تنهار فيه القوة الغربية وتنشأ فيه قوى جديدة، وتبحث فيه الدول والأفراد عن معنى للانتماء والمواطنة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024