الانترنت ساحة صراع أميركي صيني.. وسور إلكتروني للقمع الأحمر

أحمد مغربي

الأحد 2018/10/14
الأرجح أن اتهام الصين بالتلاعب بانتخابات أميركا ليس سوى حلقة اخرى من مواجهة استراتيجيّة بين البلدين، تمثل الإنترنت إحدى ساحاتها.

في السياسة، ربما لم يكن مفاجئاً أن يلجأ الرئيس الشعبوي دونالد ترامب إلى إقحام الصين ضمن دول تتلاعب بالرأي العام الأميركي، خصوصاً عبر الإنترنت، بل رأى البعض في ذلك "هروباً إلى الأمام" في مواجهة المسار المتصاعد للتحقيق الذي يجريه المحقّق روبرت مولر بشأن التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة 2016 التي أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض.

والأرجح أن الاتهام يضحي مفهوماً تماماً عندما يوضع في سياق الحرب التجارية التي يخوضها ترامب مع بكين، وهي نفسها جزء من مواجهة استراتيجيّة عميقة بين القوة العظمى الوحيدة حتى الآن (أميركا)، وبين قوة كبيرة صاعدة ترسخ مكانتها وتحاول تعديل ميزان القوى في النظام العالمي المتبدّل حاضراً. وهناك وجوه اخرى لتلك المواجهة لكنها أوسع من أن يشملها مقال مفرد.

قبل أيام، تكرّرت التهمة نفسها على لسان مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي، المعروف بميوله الدينية المتشددة إضافة إلى علاقته الوثيقة مع دعاة "التفوق الأبيض" White Supremists. إذ أعرب بنس عن اعتقاده بأن الصين تتدخّل في الديمقراطية الأميركيّة عبر وسائل تتضمن الاعلانات السياسيّة التي تنشر في وسائل الاعلام التقليدية والرقميّة. وكذلك أشار بنس إلى تشابُه ما تفعله الصين مع ما تحدثت عنه أجهزة الاستخبارات الأميركيّة بصدد التدخّل الروسي في انتخابات الرئاسة في 2016، وهي إشارة اخرى الى استخدام الصين للإنترنت كأداة في التأثير على الرأي العام الأميركي.  

ترامب على خطى أوباما!
لم تكن كلمات ترامب ونائبه بنس سوى حلقة اخرى من مواجهة افتراضيّة ضخمة ابتدأت منذ بداية انتشار الإنترنت في أواخر القرن الماضي بين الصين والولايات المتحدة.  

والمفارقة أن ترامب تشارك في ذلك، بقصد أو من دونه، مع تهم مماثلة كالها الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما للصين أثناء توليه سدّة الرئاسة، على رغم التنافر والتناقض بين الرئيسين! إذ عُرِف عن أوباما نقده للقواعد التي تفرضها بكين على شركات المعلوماتيّة الأميركيّة، بل اعتبرها مراراً أنها تعيق نمو الأعمال والتجارة مع الولايات المتحدة، وبيّن أنه تجادل بشأنها تكراراً مع نظيره الصيني شي جين بينغ.

آنذاك، أوضح أوباما أيضاً أن القانون الواسع النطاق لمكافحة الإرهاب الذي وضعته إدارة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، يتضمّن إلزام شركات التكنولوجيا بتسليم نسخة من مفاتيح الشيفرات المستخدمة في حماية البيانات، إضافة إلى وضع "ثغرات" أمنية تُسمّى "أبواب خلفيّة" Back Doors في النُظُم الرقميّة لتلك الشركات، ما يتيح للسلطات الصينية مراقبتها باستمرار.

وبعد إقراره في 2015، نشر "مؤتمر الشعب الوطني" (وهي تسمية البرلمان الصيني) ذلك القانون الذي تضمن أيضاً إلزام الشركات الغربيّة بالإبقاء على خوادمها داخل الصين، مع ما تحمله من بيانات عن الجمهور، إضافة إلى إعطاء السلطات الصينيّة سجّلات عن الاتصالات التي تتولاها تلك الشركات. 

وحينها، احتجت أميركا عليه مشيرة إلى أنه يجبر الشركات الأجنبيّة كافة (وضمنها الأميركيّة) على الاستسلام لآليات سيطرة الحكومة الصينيّة، ما يمكن الأخيرة من الوصول إلى معلومات عن جمهور تلك الشركات واتصالاته. وأوضحت واشنطن أن الشركات التكنولوجيّة الغربيّة لا تستطيع التأقلم مع تلك الشروط، وهو أمر لم تثبته مجريات الزمن لأن شركات المعلوماتيّة الغربية تأقلمت بسرعة فائقة مع ذلك القانون الصيني.

واستطراداً، يصح القول بأن الولايات المتحدة ليس لديها قوانين مقيدة مماثلة، لكن الوثائق التي كشفها خبير المعلوماتيّة الأميركي المنشق إدوارد سنودن بيّنت أن الاستخبارات الأميركيّة تستطيع الوصول قانونياً وبسهولة تامة، إلى كل المعلومات والبيانات التي تملكها شركات المعلوماتيّة الأميركيّة، سواء أكانت على الأراضي الأميركيّة أو خارجها!

وفي مفارقة اخرى، تجدر الإشارة إلى أن قانون حماية بيانات الجمهور في "الاتحاد الأوروبي" يتضمّن شروطاً مُشابِهةً بشأن الإبقاء على الخوادم ضمن أراضي الاتحاد الأوروبي، مع ما تتضمنه من سجلاّت لبيانات الجمهور. 

من منظار بكين
في "بلاد الأباطرة"، تبدو الرؤية بشأن قوانين البيانات الرقميّة مختلفة تماماً. إذ تستعمل ذريعة مكافحة الإرهاب للإشارة إلى ضرورة وصول يد الحكومة المركزية الى قلب الفضاء الافتراضي، أقلّه لمواجهة ظاهرة "التجنيد الالكتروني" المعروفة التي تشتهر بها تنظيمات إسلاموية إرهابيّة.

 ولذا، تنظر قيادة بكين باستخفاف دائم إلى اتهامها بأنها منخرطة في جهود مستمرة للسيطرة على الفضاء الافتراضي للإنترنت. ويعرف عن "الجيش الأحمر" الصيني أن لديه وحدة مدربة ومتخصصة باختراق المواقع الالكترونية، إضافة الى جيش سيبراني مُعلَن بات ركناً أساسيّاً فيه.

وقبيل اختتام ولاية أوباما أيضاً، اتّهم "مكتب التحقيقات الفيدرالي" ("إف. بي. اي") وحدة متخصصة في "الجيش الأحمر" باقتحام موقع "ريجستر. كوم" Register.com الذي يدير أسماء ملايين المواقع الشبكيّة (تابع لموقع "ويب.كوم" web.com)، وإبقائه مكشوفاً لمدة زادت عن سنة كاملة، إضافة الى سرقة بياناته. ولم يزد رد فعل بكين عن الإشارة إلى أن توجيه مثل تلك التهم إليها بات نغمة مكررة، مشيرة إلى غياب الأدلة الحاسمة عليه. 
 
 وفي سياق القبضة الثقيلة للسلطات الصينية على شبكات التواصل الاجتماعي، تهيمن شركة "تنسنت"  Tencent التي يعتقد أنها مجرد واجهة للحكومة الصينيّة، على شبكات الـ"سوشال ميديا" عبر موقعها "كيوزون"  Qzone  المخصّص للتواصل الاجتماعي.

وتضم شبكة "كيوزون" قرابة 640 مليون حساب نشط، وهي الأولى للتواصل بين الناطقين باللغة الصينيّة أيضاً. وإذا كانت شبكات الإعلام الاجتماعي تعني بالنسبة للجمهور العالمي، مواقع كـ"فايسبوك" و"تويتر"  و"يوتيوب" و"انستاغرام"، فإنها بالنسبة لبلاد العم ماو، لا تعني سوى كلمة واحدة: "كيوزون"! الأرجح أن ذلك مظهر مكثّف آخر لمعنى العيش المنغلق خلف سور رقمي عظيم، لكنه مجرد يد قمعية للحزب الشيوعي الصيني.

ووصل عدد سكان جمهوريّة الصين الشعبيّة إلى 1.4 ملياراً، يعيش قرابة 65% منهم في مناطق حضريّة. ويستخدم 642 مليون شخص الإنترنت من داخل الصين، ما يساوي انتشاراً لتلك الشبكة بقرابة 47%، وتستحوذ شبكات الـ"سوشال ميديا" على معظم ذلك الجمهور (قرابة 630 مليوناً)، ما يمثّل قرابة 46% من السكان. 

وتصل المدّة التي يقضيها الصيني على شبكات الـ"سوشال ميديا"، خصوصاً عبر الخليويات، إلى قرابة ساعتين وأربعين دقيقة، بالمقارنة مع قرابة 4 ساعات من اتصال الفرد الصيني بالإنترنت عبر الأجهزة كلها. ويلاحظ زمن التواصل الاجتماعي للفرد الصيني عبر الأجهزة كافة، سواء متنقّلة أو ثابتة، يصل إلى ساعة و45 دقيقة، ما يعني أن مستعملي الأجهزة المتنقّلة (خليوي، "تابلت"...)، يقضون وقتاً أطول على شبكات التواصل، وهو ما ينسجم مع الصورة العامة للـ"سوشال ميديا" عالمياً. وبالمقارنة، لا يقضي الفرد الصيني سوى قرابة ساعة ونصف الساعة يوميّاً في مشاهدة التلفزيون!

هل تتدخل السياسة والرقابة الحكوميّة الصارمة في ذلك الرقم، بمعنى انصراف الناس عما  يعتقدون أنه يُدار من قِبَل السلطة المركزيّة للحزب الشيوعي الصيني؟ لماذا لا تحول الرقابة الحكوميّة الصارمة دون استخدام الصينيين للإنترنت على نطاق واسع؟ لماذا لا ينصرف الجمهور عن الـ"سوشال ميديا" على رغم فضائح انكشافها أمام أعين الاستخبارات والأجهزة الرسمية وأصحاب النفوذ، كما تبيّن في فضيحة "كامبردج آناليتكا" التي وقع فيها موقع "فايسبوك"؟
الأسئلة كأنها لا تنتهي!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024