فايسبوك 2016: الإمتحان اليومي

زياد توبة

الثلاثاء 2016/12/27
لم تكن آراؤنا ومواقفنا إزاء بعض القضايا التي تهتم بالشأن العام، بحاجة إلى هذا الكمّ من الشرح والتبرير الذي تحتاجه الآن عند تصديرها إلى المشهد الفايسبوكي الرائج. كانت النقاشات والتواصل التفاعلي المباشر فيها نوع من التسليم. 

كنا نرتكن الى معرفتنا بآراء الآخرين ومعرفتهم بآرائنا ومواقفنا. كان ثمة توافق ضمني على مواقف محددة من بعض القضايا المتعلقة بحراكنا الإجتماعي والثقافي. كنا نبدأ الحديث من نقطة متقدمة على بديهيات، أو نقطة متقدمة على تسويتنا الضمنية المستحوذة على الاعتراف المتبادل بمواقفنا ووجهات النظر التي نقارب فيها أي قضية أو حدث مرتبط بالشأن العام. 

لم نكن بحاجة لمطوّلات تبريرية ومقدمات لشرح موقفنا من العنصرية مثلاً، أو من العنف ضد المرأة أو أي قضية أخرى. هذا السياق انتهى لصالح سياق تفاعلي افتراضي قدّمته وسائل التواصل الإجتماعي. سياق لا يعترف فينا إلا بقدر ما نبرر، بقدر ما نشرح ونعلن ونبوح ونستخدم القول المكتوب. إنه سياق الفايسبوك الذي لا يعترف بأي بديهية إلا بعد قولها من جديد.

يطالعنا الحراك الإجتماعي والثقافي والسياسي بالعديد من الأحداث والقضايا والمواقف يومياً. بيد أن هذه القضايا والأحداث لا تصمد لدقائق في السياق الفايسبوكي لتبقى على طبيعتها المستقلة. تتحول الأحداث إلى أسئلة ضمن إستمارة إلزامية للقول كتابةً على حائطك الفايسبوكي. إن الجمهور التواصلي التفاعلي يعيد تشكيل الأحداث ويقولبها بغية ملاءمتها مع المشهد الفايسبوكي العام. ذاك المشهد الذي يستدرجنا إلى "القول المكتوب". هو نفسه المشهد الذي استدرج العبارة المجازية "إرفع صوتك" إلى كَنَفه كي تصبح "إكتب صوتك". لا موقف خارج القول المكتوب، كما لا رأي بديهياً وسط هذا التفاعل المحموم على مواقع التواصل.

إكتب صوتك وبرّر واشرح، فالبداهة هنا غير محسوبة، عليك أن تبدأ من جديد. لا يراكم هذا الوسط أي رأي سابق لنا، بل يدفعنا للقول نفس الفكرة في مناسبات وأحداث متكررة.

لا يكتفي هذا السياق الفايسبوكي وجمهوره بما قلته سابقاً، ولا يكتفي باستدراجك إلى القول المكتوب فقط، لا بل يشحن الحدث ويصدّره إلى مشهده الخاص كمعيار تفحّصي. معيار يستكشف عبره آراء وأفكار ومواقف الجمهور المتفاعل حول الأحداث المتتالية. سرعان ما يبدو الوسط التفاعلي قاعة يُسجّل فيها الحضور أولاً ومن ثم يتم تدوين المواقف الرنّانة إزاء أي حدث برز في الواقع المعيوش وتم استدراجه إلى الوسط الفايسبوكي. تبدو وطأة المشهد الفايسبوكي فيما خصّ المواقف من الأحداث كوطأة الإمتحان. 

يريد الجمهور عند كل حدث أن يمتحن موقفك. كما يريد أن يمضي قدماً في تصنيف موقفك ومنحك علامة تخوّلك البقاء ضمن لائحة الأصدقاء، أو تكون على الهامش إلى حين إخضاعك لفحص آخر طالما أن الأحداث لا تنضب.

يتخطى الجمهور الفايسبوكي مسألة إمتحان الأفراد ليصل إلى وضع معاييره التصنيفية بناءً على مدى تفاعلك تجاه القضايا المتداولة والرائجة. ثم ينتقل لامتحان مدى هذا التفاعل واتجاهاته وقيمه، أي يتم إمتحان كمّ البوح ونوعه. كما يذهب بعيداً لوضع معايير تصنيفية تفنّد تفاعلك وقولك المكتوب وتستبين درجة ملاءمته لموضة الكلام التي يتبناها هذا الجمهور. 

لا يمكنك غضّ الطرف عن موت فلان أو بدء معركة في مكان ما أو تفجير أو تصريح لأيٍ كان. بل عليك أن تسارع إلى الوسط الفايسبوكي وتصدّر قولاً مكتوباً يبيّن موقفك مما يحدث. بتنا وكالات أنباء تعمل تحت الضغط وتبوح في كل وقت، تستخدم الكتابة بدل الصوت والقراءة بدل السمع وتُسقط من حسابها حرية التوقيت للتعبير. الوسط الفايسبوكي تظاهرة حاشدة على الدوام.

الملفت في هذا الجمهور أنه لا يكتب قوله في بعض الأحيان بالإستناد لسلوكياته خارج هذا الوسط التفاعلي. إن بعض الأفراد شاءت الحياة أن تعرفهم خارج الوسط الفايسبوكي وقبله، وتعرف قيمهم وسلوكياتهم وآراءهم حول بعض القضايا. هذه المعرفة المسبقة تخوّلك مشاهدة شخصيتين لفرد واحد: شخصية خارج الوسط الفايسبوكي وشخصية داخله. لا تتناقض الشخصيتان فحسب، بل أن الشخصية الثانية تشارك في الإمتحان ووضع المعايير ومنح الشهادات في الوقت الذي أن الشخصية الأولى ساقطة في الواقع. 

في كثير من الأحوال لا تبدو القيم المتبادلة والمواقف ضمن الوسط الفايسبوكي نتيجة تراكم واعٍ تجاه بعض القضايا، بقدر ما تبدو موضة فكرية متداولة تحت زخم التفاعل والضغط الممارس بشكل لاواعٍ. هذا الضغط الذي يجعل الحدث إمتحاناً فايسبوكياً لمواقف وآراء كنّا قد ظننّا أنها بديهيات غير قابلة للتبرير. الفايسبوك بهذا المعنى إستئناف القول نفسه مع كل تكرار للفعل نفسه. الفايسبوك إمتحان ذاكرة مثقوبة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024