إننا فانون.. يا للهول!

يارا نحلة

الجمعة 2020/03/20
في مثل هذه الأوقات الحرجة، وحدها الأسئلة الكبرى جديرة بالطرح، وهو ما أثبته ترداد سؤالين أساسيين يشغلان الصنف البشري اليوم: كيف سيحمي الفرد ذاته من الآخر؟ وكيف سيمسح مؤخرته بعد التغوط؟ وفيما برز السؤال الثاني في المجتمعات الغربية بشكلٍ خاص (على اعتبار أن الإسلام وجد حلاً له منذ زمن)، يستحوذ السؤال الأول على عقلنا الجمعي.

وفي خضم هذا الجنون الجماعي الذي جاء على هيئة فيروس، يتخذ كلٌ موضعه عند الحدّ الفاصل بين الصمت المطبق الذي يملأ صدى الشوارع، والضجيج الذي يصمّ عقول كثر لم يزوروا أنفسهم، طوعياً، منذ وقت طويل. يزداد الهجاسي هجاساً، لكنه يجد لهجاسه شرعية. يجد في الإرتياب الجماعي راحته وألفته. أما النشيط المتفائل، فيزداد نشاطه شدّة وإهتياجاً. نشاط غير مثمر يبدّد الطاقة التي من الأجدى الإحتفاظ بها للفترة المقبلة.

الارتياب في الذات
الشاب الثلاثيني مقتنع بأنه مصاب بالكورونا لا محالة. لقد إستشعر إرتفاع حرارته، وهذا كافٍ لتوقع أسوأ السيناريوهات. يقصد الصيدلية بهدف الإطمئان إلى تحقق إحدى نزواته الدفينة: الإصابة بالمرض. يبتاع من الصيدلي ميزان حرارة، ولا ينتظر العودة إلى البيت ليقيس حرارته، بل يستخدمه فوراً. تأتيه النتيجة سلبية. الرقم على شاشة الميزان هو "37". درجة الحرارة الطبيعية. لا، لا يعقل، هناك خطأ ما، فهو مقتنع بإرتفاع حرارته. يحاول ثانية، لكن الرقم هو نفسه، 37. مرة ثالثة. لا فرق. حرارته طبيعية. الميزان معطل إذاً. يطالب بإعادته للصيدلي وشراء ميزان آخر يثبت إصابته بالفيروس المميت. يرفض البائع بالطبع.

الارتياب في الآخر
يستعر النقاش بين سائق "السرفيس" وأحد الركاب حول طرق الوقاية من الكورونا وإحتوائها. يرتاب السائق من كثرة إحتكاكه بالزبائن، ويعتبر نفسه أكثر عرضةً للإصابة بالفيروس من غيره. يرى في الآخرين وباءً، وفي نفسه الضحية. يخبره الراكب أن لا فائدة من الهلع والوسواس الصحي، وأن لا حاجة فعلية لإرتداء الكمامات إلا لمن يصاب بالمرض، وفق ما أفادت به التقارير العلمية. يستشيط السائق غضباً إزاء ما يراه إستهتاراً بالصحة العامة من قبل الشاب، ويتهمه بكونه "أحد أسباب إنتشار الوباء"، متمنياً له الإصابة بالمرض هو الآخر.

وكأننا نكتشف فناءنا للمرة الأولى
يجلس عجائز الأشرفية في شرفاتهم، كما يفعلون يومياً. لا شيء جديداً، سوى أن آخرين إنضموا إليهم في عزلتهم، الطبيعية عادةً، والإستثنائية اليوم. الآخرون إكتشفوا فناءهم تواً. فوجئوا بخطرٍ محدّق يهددّهم بحقيقة أنهم لن يعيشوا للأبد. يا للهول!

الحياة عادية أكثر من اللزوم
ينام الـ"فريلانسرز" حتى وقت متأخر من النهار. يبدأون يومهم بعد أن تكون نهارات الآخرين قد شارفت على نهايتها. فهم قضوا الليل في العمل ربما، أو على الأغلب في مشاهدة الأفلام، مغازلة الأرق، الثرثرة مع الأصدقاء حول أتفه الأشياء.. في المحصلة، أي شيء قد يعتبره هؤلاء أهم من النوم، وأهم من اليوم التالي. هم يفضلون خوض الحياة ليلاً، حين يكون طنين الناس قد خفت وحركتهم قد هدأت. فلا داعي لكل ذاك الضجيج. لا داعي لضبط الوقت أو محاولة تنظيم أنفسنا عبره. لا حاجة للتكيف مع العالم، فهو الذي يتكيف معهم الآن.
لا جديد بالنسبة لهؤلاء، أي العّمال "الهشين"، الذين يعيشون يومهم ويجهلون غدهم. هم أقل عرضة للشعور بهول الكارثة، كارثة وجودنا الهشّ كظروفنا المادية. فهم واجهوا هذه الهشاشة في السابق، وتآلفوا معها. الفرق، اليوم، أن الوجود بات هشاً بالنسبة للجميع. إننا جميعاً في المركب الغارق ذاته. وفي ذلك عدالة.

التسليم للسلطات العليا
يسلم المواطنون الهلعون مصائرهم للسلطات العليا، كل وفق توجهاته الإيديولوجية: الله، الدولة، السلطات العلمية.. شل فيروس الكورونا موجة الإحتجاجات الشعبية التي كانت تعم عدداً من بلدان العالم. هُجرت الشوارع، وعاد المحتجون إلى بيوتهم. جلسوا أمام شاشات التلفاز وإنتظروا تعليمات الدولة بشأن التصدي لفيروس كورونا. في أميركا، يشي المواطنون بجيرانهم جراء سعال. في لبنان يطالب "ثوار" سابقون بحالة طوارئ عسكرية تقتلع الناس من الفضاء العام. في أوروبا، يتهافت المواطنون على المواد الإستهلاكية، يتعاركون من أجل ورق التواليت. إنه سلاحهم الأخير في مواجهة بربريتهم الدفينة، رمز الحضارة الإنسانية المطلق.

لا داعي للغد
بالنسبة للقلقين، بفطرتهم ومن دون الحاجة إلى خطر وباء قاتل، فلطالما أرادوا للوقت أن يتوقف. حركة دوران ساعة الكون، بانتظامها العبثي، هي سبب قلقهم ووسواسهم. يرون هواجسهم، اللامنطقية سابقاً، إزاء عالمٍ مرعب وقاتل- نظرياً- تتعمّم وتتجسّد في هيئة خوف ماديّ معروف المصدر، وإن كانت ميكانيزماته وتداعياته لا تزال غامضة. لكن هذا الضباب الوجودي هو ملعب القلقين المتمرسين ومرتعهم. العالم كله متلعثم بالخوف، أخرس بالكمّامات، مختبئ خلف الأقنعة. العالم بكامله في حجر صحي. التنفس ممنوع. الغد لا ضرورة له. هكذا يجدر بالأمور أن تكون.. على هذا القدر من الوضوح. ليس هناك ما هو أكثر عقلانية.
أما نحن الملولون، فلعلنا الأكثر جهوزية لهذه العزلة القسرية. لقد تخلينا عن العالم الخارجي منذ أمد طويل. ليس فيه ما يثيرنا على كل حال. الوضع الحالي، في المقابل، هو في قمة التسلية والإثارة. في صمت الشوارع، معانٍ كثيرة، وفي فراغها هزل وفير، أبطاله دمى مسعورة لا تنفك تدور حول نفسها. وهل من أمر أكثر تسلية وكوميديا من هذه الحالة البشرية المتخبطة بأوهامها المندثرة؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024