بيروت وحرّاسها وسرابها

آية الراوي

الإثنين 2020/05/18
بيروت ليست مكاناً واحداً، بل هي مدنٌ عديدة، متعاقبةٌ متوازية، تمحي الواحدة منها الأُخرى وتكدّس شذرات ذاكرتِها في قلوب سكّانها، في بيوتهم، في الشوارع والمقاهي، في صوَر الشهداء والمفقودين، في صالات السينما المهجورة، في وقوف الصيّادين صباحاً على عتباتها. كل جيل يحاول استرجاع بيروت التي يحبّ، يبحث عنها في تلك الشذرات والمشاهد، وربما يجدها على جدار منزلٍ مهجور أو في عربة بائع الفول أو في فيلمٍ قديم لصديقة أو صديق- وربما لا يجدها أبداً.

من منّا عاش بيروت في التسعينات وأول الألفية، عاشها بطريقة خاصة، مختلفة، لا تشبه بيروت الستينات التي يتذكرها أهلنا ولا تشبه المدينة-الحالة التي نعيشها الآن. فجيل ما بعد الحرب لم يكن يهاب الحرب، وقد نكون مررنا بحروب كثيرة، كل على طريقته. لكنها لم تكن شغلنا الشاغل. أحداث معيّنة شكّلت محطات مهمة في حياتنا: بعض المشاهد والذكريات من الحرب الأهلية في مرحلتها الرابعة، عناقيد الغضب ومجزرة قانا، تحرير الجنوب، وأخيراً حرب تموز طبعاً التي كانت أشدّها وطأة وأثراً في جيلنا ربّما لأنها أحدثها، الاغتيالات والاشتباكات بين الأحزاب... عشنا تلك التجارب مع ما تركته من آثار نفسية وذكريات أليمة وبائسة، لكن مع ذلك كنّا منهمكين بالحياة، بالحب، بالكتب، بالدراسة، بالعمل، بصناعة أحلامنا وتدليلها. كان في إمكاننا أن نحلم. أما ما نعيشه الآن، من تمزّق ويأس من حصول أي تغيير مع كل محاولاتنا، فهو انهماك بالبقاء لا غير، نحاول لملمة أحلامنا وإعادة إحيائها، بينما نشاهد أهالينا يهرمون ويذوون أمام شاشة التلفزيون، يروون تاريخهم ونضالهم ويهزأون من نضالنا- لكنهم يؤمنون به في سرّهم. ماذا جنوا بعد عمر من العمل والتضحيات، بعدما رفضوا مغادرة البلاد لشدة حبّهم لها وإيمانهم بأنه "لا بد أن يستجيب القدر". ماذا بقي لهم فيها، غير منازل قد يُطرَدون منها ورواتب بالليرة لم تعد تكفيهم وودائع لم تعد ملكهم، كأن حظّهم من الأزمات المعيشية لمّا ينتهِ بعد، كأن البلاد تقول لهم "هذه مكافأة البقاء، هذا عقاب من يؤمن بالأمل"... 

الآن من هاجر منّا لا يجرؤ على العودة، لصعوبة الظروف وغلاء المعيشة (حتى أوروبا أصبحت أرخص من بيروت)، واستحالة العمل بما يتناسب مع الاختصاص، وبعيداً من الأحزاب والوساطات ودوائر السلطة واحتكارات المنظمات الدولية، لا سيّما إذا تعلّمنا شيئاً من الكرامة وحرية الرأي والانتماء، فندفع ثمن ذلك أنه أصبحنا طيوراً تغرّد خارج السرب بعدما أمضينا سنوات في الغربة ووحدتها. ومع ذلك، كل مرة نعود، وكل مرة نغادر. وقد يكون السبب الحقيقي الذي يمنع البعض من العودة هو التشبّث بالمدينة كما عهدناها، فكرة أو ذكرى أو خيالاً، فنأبى إلّا أن نعيشها حلماً أو لغزاً لم نفكّ حروفه بعد، فيما هي أشباح ودمار وسراب، نهيم بها كمن يتنشّق في منامه عطرَ أمّه ويحتضنها، ويستيقظ ليجد نفسه يتيماً. هؤلاء الذين مكثوا إلى جانبها هم حراس المعبد، يجلسون أمام نار الهيكل لمناوَلة المؤمنين، والكأس مُرّة ونبيذُها بات خَلّاً، لكن المعبد لا يخلو من الزوّار، وقد تتجلّى لهم الآلهة مرة في نوّار ومرة في كانون، لكي تترك رائحة البخور وإيهاماً بالإيمان، لذلك يعودون، وحرّاس المدينة لا ينامون، يسهرون على وقد النار في المعبد وعصر الكرمة، فيمرّ الزائرون ويستذكرون لحن الصلاة وطقوس الربيع، يخشعون ويجذلون لتلك الذكرى، بينما يخط الحرّاس صفحات جديدة عند مطلع كل فجر، ليصنعوا منها سراباً للموسم المقبل. وذات صباح، نرى المعبد ينهار أمام عيوننا ويتلاشى، فلا ماء ولا نبيذ ولا نارـ ومع ذلك نعود، ويضحك الحرّاس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024