دكان أمي

طوني شكر

السبت 2021/09/04
منذ زمن بعيد، كان لأمي دكان. افتتحته أوائل الحرب، بعد مقتل أبي، لإعالة عائلتنا الصغيرة.
كان الدكان صغيراً جداً، أربعة أمتار مربعة، أو خمسة بالكاد. لكنه كان مثل كل الدكاكين، يحتوي كل شيء: من المعلبات الى الحبوب والمشروبات والشوكولا. من مستحضرات التنظيف الى الدخان والصحف، إضافةً إلى هاتف معلق على الحائط، يمكن أن يستعمله الزبون مقابل مبلغ صغير (ربع ليرة أو نص ليرة، لا أذكر). إلى جانب الهاتف، كانت أمي تسجل، على الحائط مباشرة، أرقام هواتف أشخاص "مهمين": موزع الصحف، شركة البيبسي، بائع الحبوب، إلخ.

كان الزبون بالنسبة لأمي، مَلِكاً. مهما كان طلبك، كانت ستؤمنه لك. نوع من السجائر أنت وحدك تشتريه؟ موجود. ماركة معينة لم يسمع بها أحد غيرك؟ موجودة، وذلك رغم أن النقود لم تكن متوافرة في البداية، فكانت تستدين مبلغاً صغيراً في الصباح، وتفعل المستحيل لردّه قبل انقضاء النهار، إذ لا نوم على دَين.

وهكذا، كانت أمي تذهب مثلاً الى الأسواق في "البلد" لتأمين بضاعة لم تكن متوافرة في المنطقة بسبب الحرب. لم تكن تعرف قيادة السيارة، فكانت تطلب من هذا او ذاك إيصالها، ما أوقعها في مشاكل كثيرة، هي الأرملة الجميلة في أواخر الثلاثينات من العمر. بالنسبة إليها، كان طلب التوصيل خدمة، بالنسبة للرجال أصحاب السيارات كان التوصيل فرصة.
"كل ما إطلع مع حدا يصير بدو يحط إيدو…"، تخبرني. ومثل السائقين، كان الباعة: "كنت دايماً نقّي المحل يللي صاحبو كبير بالعمر، ومسلم. الإسلام أوادم… الرجال المسيحية كلاب عينن بلقة"، حسب وصفها.

هذه الخدمات أثمرت زبائن دائمين، يأتون ليس فقط لشراء غرض، انما للتحدث مع أمي والموجودين في الدكان (أربعة مقاعد مريحة، بالإضافة الى كرسي امي ومكتبها، والبضائع على الرفوف، في أربعة أمتار مربعة). "اقعد اشرب قهوة"، في الداخل، أو في الفسحة الخارجية أمام الدكان، ويبدأ الحديث.

هذه "العجقة" مكّنت أمي من جني ما يكفي من المال لتربيتي وإرسالي إلى مدارس خاصة، ومن ثم إلى جامعة خاصة. لكن، في بداية التسعينيات، مع نهاية الحرب، كانت قد تعبت، وكان عصر الدكاكين بدأ بالأفول لصالح السوبرماركات أولاً، ثم المولات. من يستطيع منافسة أسعار السوبرماركت وعروضاته؟ مستحيل. كانت تحس بالقهر كلما رأت زبائنها يركنون سياراتهم ويُنزلون منها أكياس السوبرماركت المليئة بالأغراض. لكنها لم تكن تقول شيئاً، فالكلام لا ينفع أمام نمط حياة جديد كانت ملامحه ترتسم وقتها.

أما أنا، فكان دوامي في فترة بعد الظهر، أي في الوقت الميت، وكنت أستفيد من هذا الأمر لأقرأ. كنت أقرأ كل شيء، من بيوغرافيا تروتسكي لدويتشر، إلى "مبدأ الأمل" لبلوخ، إلى "إسم الوردة" لإيكو، بالاضافة الى الصحف ومجلة "الشبكة" وروايات "عبير" ومجلدات سوبرمان ولولو وطبوش. على عكس أمي، كنت أتضايق من الزبائن لأنهم يقطعون قراءتي. يدخل الزبون، وبدلاً من الترحيب، يجد مراهقاً أهبل لا خُلق له على البيع. يشكوني إلى أمي فتقول: "ايه اتركوه شو بدكن فيه؟".

عصر الدكاكين وعلاقاتها الاجتماعية التي شبكت الناس مع بعضها البعض، كل هذا صار طللاً. صار ماضياً نذكره ونعرف أن لا رجوع إليه. يبقى كيف نذكره: لسبب ما، كلما أتذكر الدكان، الذي ما زلت احتفظ به وأدفع إيجاره الى الآن، أتذكر معه أغنية فيروز "صارلي شي مية سنة مشلوحة بهالدكان، ضجرت مني الحيطان". أما أمي، في آخر أيامها، فكانت أغنيتها المفضلة، هي تلك الأخرى لفيروز التي يُذكَر غبها دكان: "كان الزمان وكان، في دكانة بالحي، وبنيات وصبيان ترالالا" (تنسى الكلمات).

الاختلاف في الذاكرة قد يعود إلى كوني نِكَدياً، أو ربما لأنها كانت تحب الحياة، أو ربما لأن الدكان شكّل 40 سنة من عمرها، على هذا الكرسي، وراء هذا المكتب. "كان الزمان وكان"، تردد، وتهز رأسها فرحاً، وتهز رأسها أسفاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024