آيا صوفيا مقابل مسجد قرطبة: واحدة بواحدة والبادئ أظلم!

وليد بركسية

السبت 2020/07/11
لا شيء يدعو للدهشة في التفاعل العام مع قضية تحويل متحف آيا صوفيا، إلى مسجد، في تركيا، ولا مدعاة للعجب في استخدام الرئيس رجب طيب أردوغان تغريدات بالعربية تختلف بشكل جذري عن نظيرتها بالانجليزية عند الحديث عن القرار. بل على العكس تماماً، هنالك الكثير مما يدعو للملل والتكرار، ما يدفع إلى التمني بصدق أن يأتي يوم لا يسمع فيه أحد بأي أخبار جديدة تأتي من الشرق الأوسط والدول الإسلامية عموماً، وإن كانت تلك الأمنيات القليلة التي عبر عنها البعض تختفي أمام طوفان الكتابات المتشنجة والشجارات العنصرية وتبادل الشتائم.


ولعل المشهد في "تويتر" و"فايسبوك"، مهما كانت اللغة المستخدمة، يظهر مدى انقسام العالم في حقبة زمنية تنهار فيها الحضارة الغربية التي تزعمت العالم طارحة قيماً نبيلة مثل الجمال والمواطنة وحرية التعبير واحترام الآخرين وتبادل السلطة والحق في الاختلاف وفصل الدين عن الدولة على سبيل المثال. وهي قيم لم تنتشر في كثير من دول العالم، لسبب أو لآخر، إلا أن العداء لها في الدول العربية والإسلامية، مثلما تظهر التغريدات حول قضية آيا صوفيا، يرجع إلى رؤية متطرفة تصور الدين الإسلامي أساساً وحيداً يجب أن تقوم عليه الدولة، ما يقود بدوره إلى التناقض مع الحضارة الغربية التي تصبح تهديداً لذلك الفكر الأصولي، الذي يتم اللعب على أوتاره ببراعة من قبل السياسيين في المنطقة، بما في ذلك أردوغان نفسه.

وإن كان أردوغان يلعب على الوتر الديني لتحقيق غايات سياسية محلية، تتمثل بصرف النظر عن الاقتصاد المتعثر للعام الثاني على التوالي أو تراجع شعبية حزبه "العدالة والتنمية"، مثلما أشارت التحليلات التي كتبتها أكبر الصحف الغربية بما في ذلك مجلة "إيكونوميست" البريطانية، فإنه يلعب تلك اللعبة الخطرة ببراعة، خصوصاً أنه يوجه خطاباً مختلفاً تبعاً للجمهور المستهدف. وفي حالة الشرق الأوسط، فإن ما يقوم به يغذي النزعات الطائفية في المنطقة التي تشهد صراعات عسكرية متعددة، لكنه يسلط الضوء كذلك على الصراع الأشمل في المنطقة بعد الربيع العربي، بوصفه صراعاً إقليمياً، لا محلياً أو طائفياً، تتنافس فيه الدول على النفوذ من بوابة الدين الإسلامي الذي تدعي الدول الإقليمية، وتحديداً السعودية وتركيا وإيران، أنها تمثل النسخة الأصح منه.



توازياً، يتقاطع ذلك مع فلسفة صراع الحضارات التي أطلقها المفكر الأميركي الراحل صامويل هنتنغتون العام 1996 وتفيد بأن "الاقتصاد يتبع السياسة والسياسة تتبع الثقافة"، وتحدث فيها عن تداع تدريجي لزعامة الحضارة الغربية مقابل ظهور دول إقليمية كبرى تتنازع على سيادة العالم، لتحدث الصراعات عند الدول الحدودية الفاصلة للخطوط الحضارية، مثل سوريا أو أوكرانيا، ووفق ذلك تصبح التحالفات بين الدول قائمة على روابط ثقافية دينية تتحكم بالسياسة والاقتصاد، فيما يغذي الإعلام كل ما سبق لكونه الرابط المشترك بين العناصر الثلاثة، بينما ينقسم الأفراد العاديون إلى قوميين كارهين للغرب أو منفتحين يريدون التشبه به كنموذج حياة ناجح.

ومن اللافت أن حدود الفصل بين اللعب على الشعور القومي واللعب على الشعور الديني، في خطاب أردوغان، تنكمش تدريجياً، فخطابه القائم على الرمزية الإسلامية في قضية أيا صوفيا ترافق مع حديثه عن كون تركيا فاعلاً وليست مفعولاً به من ناحية سياسية، مع مقاربات تاريخية كثيرة بينه وبين السلاطين العثمانيين، علماً أن تركيا التي تعثرت إمكانية انضمامها للاتحاد الأوروبي طوال السنوات الماضية، لسبب أو لآخر، اقتنعت منذ فترة بالبحث عن عمق ثقافي/سياسي جديد لها، بشكل مشابه لطروحات النظرية، وباتت تبحث عن زعامة للعالم الإسلامي ودور أوسع لها في منطقة الشرق الأوسط، فيما تبتعد أكثر فأكثر عن حلفائها الغربيين في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، بدليل صفقة الصواريخ الروسية "إس 400" التي أثارت جدلاً سياسياً كبيراً.

وتعتمد أنقرة على القوة الناعمة متمثلة في الدراما التلفزيونية تحديداً، لنشر زعامتها الدينية، ويمثل مسلسل "قيامة أرطغرل" مثالاً نموذجياً على ذلك. كما باتت تعزز تلك الجهود المثمرة بالقوة العسكرية كما هو واضح في تدخلاتها المباشرة في المنطقة (سوريا، ليبيا)، وفي تحالفاتها الدبلوماسية بعد الأزمة الخليجية العام 2017. ويمكن القول أن هذا النموذج التركي يأتي في سياق فراغ أحدثه تراجع في القوة الغربية التقليدية في المنطقة، مع رغبة الولايات المتحدة، منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في الانسحاب من الشرق الأوسط، والتي تعززت لاحقاً بسياسة "أميركا أولاً" التي ينتهجها الرئيس الحالي دونالد ترامب. وربما يكون الصراع الإقليمي الأوسع في المنطقة تعبيراً عن رغبة في ملء ذلك الفراغ، بالاعتماد على سرديات ثقافية تعطي شرعية للفاعلين السياسيين وخياراتهم العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية.

وهكذا، لا يصبح الصراع المتفرع عن تلك السياسات في مواقع التواصل، لحظياً، بل يأخذ أبعاداً أكبر من حجمها تتخطى التعبير الفردي نحو الدفاع المستميت عن الاعتقاد الشخصي الضيق الذي مازال للأسف يشكل معياراً للهوية ويخلق الحواجز بين البشر ويعيد تشكيل مفاهيم الوطن والانتماء في القرن الحادي والعشرين الذي يشهد إلى جانب الخطاب الديني الأصولي، على شاكلة أردوغان، خطاباً قومياً شوفينياً يتمثل بالأحزاب اليمينية المتطرفة، رغم أن تلك الحواجز كانت تختفي تدريجياً بفعل العولمة وقوة التكنولوجيا التي ساهمت في خلق عوالم وهويات بديلة، وقربت المسافات الجغرافية بطريقة كادت تسلب الدول القومية السياسية نقطة قوتها في احتكار مفهوم الهوية القومية على أساس الارتباط بالمكان والجغرافيا، إلى حين ظهور فيروس كورونا المستجد قبل أشهر على أقل تقدير.


للدلالة على ذلك، قال أفراد يعرفون عن هويتهم بأنهم مسلمون متحمسون للقرار التركي أن "أيا صوفيا" كانت في الأساس مسجداً، ليرد نظراؤهم من المسيحيين الذين رفعوا شعارات تحاكي الحروب الصليبية، بالقول أنها بقيت كنيسة وكاتدرائية لفترة أطول زمنياً مما كانت عليه كمسجد. وتمدد الجدل بين الطرفين نحو الحديث عن تحويل مساجد الأندلس إلى كنائس، بما في ذلك مسجد قرطبة الكبير، ما يستوجب الرد والدفاع عن مشاعر المسلمين ومظالمهم التاريخية. وفيما أشار آخرون إلى أن المكان كان متحفاً، ما يجعله في مرتبة أرقى من أي دار للعبادة في زمن بات فيه الدين عبئاً على البشرية وعائقاً أمام تطورها لا أكثر، كرر آخرون حديثهم عن أن القرار يكسر قيود العلمانية الشريرة، بما يعلي راية الدين فوق الجميع!

وفي سوريا، التي توقفت بالفعل عن الوجود كدولة لصالح تحولها إلى مجموعة من الكانتونات المتصارعة إثنياً وطائفياً من جهة، وساحة للصراعات الدولية من جهة ثانية بحجة الدفاع عن الهويات والمقدسات الدينية قبل أي شيء آخر (روسيا ترفع  راية الدفاع عن مسيحيي المشرق وتتحدث إيران عن المزارات الشيعية، ...) بات المشهد أكثر انقساماً من أي وقت مضى. فالسوريون الذين هللوا للقرار التركي، وصفوا بأنهم "سوركيون" وهي كلمة ناشئة تدل على السوريين الأتراك أو السوريين المتعاطفين مع تركيا، ولا يعتبر ذلك تذاكياً لفظياً فقط، بل هو تعبير عن رغبة في احتكار معنى أن يكون المرء سورياً بعد نحو 10 سنوات من الثورة في البلاد ضد نظام بشار الأسد.

ولعل هذا المشهد المربك، يعزز الصورة التي تحكم العالم اليوم وهي أن العالمين الإسلامي وغير الإسلامي باتا لا يتسامحان مع بعضهما البعض، وتحديداً على المستوى الفردي، لأن رجال السياسة في العالَمين، من أمثال أردوغان وترامب، يميلون لمخاطبة أصحاب الآراء القائمة على الخوف من الآخر، في عالم متغير تنهار فيه القوة الغربية وتنشأ فيه قوى جديدة، وتبحث فيه الدول والأفراد عن معنى جديد للانتماء والمواطنة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024