مشاجرة شيراك في القدس.. القصة الكاملة بعد طول تعتيم

حسن مراد

الإثنين 2019/09/30
مع دفن الرئيس السابق جاك شيراك، طوت فرنسا، برمزية، فصلاً هاماً من تاريخها السياسي المعاصر ليس على المستوى الداخلي وحسب، بل أيضاً على الصعيد الديبلوماسي. "صديق العرب" كما لقبه البعض، تزعم المحور الرافض لغزو العراق العام 2003 وهو ما يعتبره البعض أبرز موقف اتخذه طوال رئاسته للبلاد. لكن دخول شيراك الواسع إلى العالم العربي تم قبلها بسبع سنوات من البوابة الفلسطينية.


فخلال زيارته للقدس الشرقية العام 1996 صُوّر وهو يصرخ بوجه الأمن الإسرائيلي. عشرون ثانية انتشرت في أصقاع العالم ومازالت تختزل حتى اليوم موقف شيراك من القضية الفلسطينية، فما الذي جرى وقتها؟ وما كانت خلفيات الحادث وأبعاده؟


في 21 تشرين الأول/أكتوبر من ذاك العام، أي بعد نحو سنة على انتخابه رئيساً لفرنسا، حط شيراك في إسرائيل. كل الوسائل الإعلامية ترقبت تلك الزيارة الرسمية وهو ما تجسد في الوفد الصحافي الفرنسي الذي رافقه والبالغ 95 شخصا يمثلون مختلف المؤسسات الاعلامية الفرنسية من مكتوبة ومرئية ومسموعة.

هذه الزيارة كانت ترجمة عملية لعودة فرنسا إلى الشرق الأوسط بعد عهد فرنسوا ميتران الذي تمثل بغياب الديبلوماسية الفرنسية عن العالم العربي. وقد مهد شيراك لهذه العودة في نيسان/أبريل من نفس العام حين أعلن من القاهرة أن علاقات بلاده بالعالم العربي ستكون إحدى أسس سياسته الخارجية. وعليه شملت زيارته كذلك القدس الشرقية والأراضي الفلسطينية في أول زيارة رسمية لرئيس غربي منذ انتخاب ياسر عرفات رئيساً للسلطة في كانون الثاني/يناير 1996. رسالة سياسية هامة عبرت عن دعم الرئيس الفرنسي لخيار حل الدولتين وأن تكون القدس عاصمة مشترك،ة في تحدٍ واضح لبنيامين نتانياهو.

في اليوم التالي لوصوله (22 تشرين الأول/أكتوبر) توجه شيراك إلى القدس الشرقية بصحبة أكثر من 100 صحافي واعلامي. حرص خلالها أن يغيب، قدر الامكان، طيف إسرائيل عن هذه الزيارة: فلم يرافقه رئيس بلدية القدس في حينها إيهود أولمرت، كما طلب حداً أدنى من الإجراءات الأمنية حتى لا يعيقه ذلك عن الاحتكاك بالفلسطينيين. كان للرئيس الفرنسي ما أراد في طلبه الأول، لكن في الطلب الثاني لم تجري الرياح الاسرائيلية بما اشتهت السفن الفرنسية: إذ انتشر الأمن الإسرائيلي بكثافة في أزقة وشوارع البلدة القديمة، لا بل وُضع أمام كل محل فلسطيني جندي اسرائيلي.

في حلقة تلفزيونية قال شلومو آرنوي، المسؤول عن أمن شيراك في القدس الشرقية، أن تلك الإجراءات كانت ضرورية لا سيما بعد اغتيال إسحاق رابين عام 1995. حادثة الاغتيال هذه دفعت بالإسرائيليين إلى أخذ احتياطات مضاعفة في حماية الشخصيات بعدما خلصت التحقيقات إلى ثغرات أمنية فادحة.

لكن الجانب الفرنسي قدم رواية مختلفة، ففي نفس الحلقة وصفت فيرونيك سانت أوليف، موفدة قناة "فرانس 2" إلى القدس، الإجراءات الأمنية المتخذة بـ "غير المسبوقة" وذلك بالمقارنة مع زيارات رسمية قامت بتغطيتها في السابق.

من جهته أكد موفد صحيفة "Libération"، بيار هاسكي، أن كل هذه الإجراءات الأمنية كانت لمنع شيراك والوفد المرافق له من التواصل مع الفلسطينيين والاحتكاك بهم وهو ما أيدته ليلى شهيد، سفيرة فلسطين السابقة لدى فرنسا، إذ أبدت استغرابها من إقفال الفلسطينيين لمحلاتهم عند مرور شيراك بالقرب منها، ليتبين لها بأن الجيش الإسرائيلي فرض عليهم ذلك. 

استاء شيراك من سعي الإسرائيليين لعرقلة مخطط زيارته: فكلما خرق الطوق الأمني للاقتراب من الفلسطينيين الذين صادفهم، كان الإسرائيليون يسارعون لـ "محاصرته".  استياء ازداد منسوبه مع مسلسل التدافش والعراك بين الصحافيين الفرنسيين والأمن الإسرائيلي. 

في هذا المناخ المتوتر، أدرك آلون غريغون (مُصوّر قناة فرانس 2) بحدسه الصحافي أن الأمور قد تنزلق نحو الأسوأ وعليه قرر البقاء قريباً من شيراك وعلى درجة عالية من التأهب تحسباً لأي طارئ وكان له ما أراد: فبعد تدافع جديد بين الأمن الإسرائيلي وصحافيين فرنسيين انفجر شيراك غاضباً متوجها لشلومو آرنوي، صرخ أولا بالفرنسية: "ماذا هناك من جديد؟ لقد طفح كيلي"، انتقل بعدها للانجليزية مهدداً بقطع زيارته والعودة إلى فرنسا. في تلك اللحظة كانت كاميرا غريغون حاضرة دون سواها فظفر بمفرده، بالـ "سكوب". وعبّر آرنوي عن صدمته من ردة فعل شيراك، إذ لم يسبق له أن واجه موقفاً مماثلاً طوال عمله في حماية الشخصيات.

بنظر الرأي العام العالمي، كادت أن تفضي هذه الزيارة إلى أزمة ديبلوماسية بين باريس وتل أبيب وهم محقون في تكهنهم، لكن ما يجهولنه أن الأزمة (التي تم تداركها) لم تكن لتحدث فقط بسبب ما تلفظ به شيراك.

بعد هذا الحادث، ووفقاً لمخطط الزيارة قصد شيراك كنيسة القديسة حنة. هذه الكنيسة التي بنيت في العهد البيزنطي، أهداها السلطان عبد الحميد الأول للإمبراطور نابليون الثالث تقديراً منه للموقف الفرنسي خلال حرب القرم منتصف القرن التاسع عشر، وعليه تُعتبر أرضها تراباً فرنسياً. حين علم شيراك أن جنوداً اسرائيليين انتشروا داخل الكنيسة من دون تنسيق مسبق مع القنصلية الفرنسية في إسرائيل (المكلفة بالإشراف على الكنيسة)، تسمّر على الباب طالباً من الجنود "مغادرة الأرضي الفرنسية". وحسناً فعل شلومو آرنوي حين إنصاع لرغبة شيراك لأنه  لو تمسك بموقفه لاعتُبِر انتهاكا للسيادة الفرنسية، تماماً كما لو تم اقتحام سفارة أجنبية عنوةً.

في نهاية الأمر، طغى فيديو غريغون على مجمل زيارة شيراك للأراضي الاسرائيلية والفلسطينية. المفارقة أن هذه المشاجرة "غير المخطط لها" هي التي اتاحت للرئيس الفرنسي أن يظهر بثوب المؤازر للموقف الفلسطيني، ربما ما كان لينال مراده على هذا النحو لو تمت الزيارة بسلاسة كما خطط لها. فور انتشار المقطع المصور، أدرك شيراك أنه حقق مبتغاه، وعليه أبدى ليونة إذ ارتضى أن يعرب نتنياهو عن اسفه بعدما كان الديبلوماسيون الفرنسيون متمسكين باعتذار رسمي، يالتوازي لم ينزلق إلى الاستفزازات الإسرائيلية التي تلت الحادث. 

حتى اليوم، مازال هذا المقطع المصور بثوانيه العشرين يختزل ديبلوماسية شيراك تجاه العرب لدرجة أن الرأي العام العربي حمّل هذه الدبلوماسية أبعاداً أكثر مما تحتمل. صحيحٌ أن الموقف الرسمي الفرنسي كان إيجابياً تجاه العرب، لكن ذلك لم يمحو الواقعية السياسية (Realpolitik): فشيراك لم يكن بهذا العداء ضد إسرائيل كما يتوهم البعض، ومؤازرته للعرب لم تُترجم عملانياً بالمستوى المطلوب على مسار المفاوضات وعملية السلام لمحدودية النفوذ الفرنسي مقارنة بنظيره الأميركي. حتى حينما عارض غزو العراق لم يحل اعتراضه دون ذهاب واشنطن للحرب. 

إذا ما نظرنا عملانياً إلى الإنجازات الفرنسية في عهد شيراك، سواء على صعيد دعم الفلسطينيين أو مؤازرة الشعوب العربية (كملف حقوق الإنسان) لا نجد أي علامة فارقة تذكر. الفارق أن شيراك أتقن مخاطبة العالم العربي إعلاميا، إتقان أتاح له حجز مكانة متقدمة في ذاكرة الفلسطينيين كأكثر زعيم غربي مؤازر لهم خاصة وأن ما من حل نهائي يلوح في الأفق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024