العتمة الآتية.. ما لا يعرفه أطفالنا

قاسم مرواني

الخميس 2021/06/10
بحسب قوانين "مورفي"، الأمور إذا تركت على سجيّتها، فإنها تتجه دائماً من السيء إلى الأسوأ. في لبنان، كل شيء متروك للقدر، على أمل أن تتحسن الأمور عبر تضافر الصدف والظروف لصالحنا.

هذه محض أمنياتٍ وآمال زائفة. فما احتمالات أن ترمي فنجان قهوة على الأرض ثم يعود إلى التجمّع مجدداً في شكله الأصلي من تلقاء نفسه بعدما تحطّم إلى أجزاء صغيرة، بفعل قوانين الجاذبية والهواء؟ احتمال واحد من ملايين المليارات، إن لم يكن صِفراً.

كصحافي، تحاول أن تنقل الواقع للعالم. تبذل جهدك كل صباح لكي تبحث بين الأحداث عن خبر إيجابي ومفرح، عن القليل من الأمل  تبثه لقرائك، كي لا تتهم بالتشاؤم والنكد. لكن جل ما تفعله هو التذمّر، وأفضل خبر تنقله هو أن أحدهم فضح صفقة فاسدة تورط فيها أحد السياسيين، وهذا في حد ذاته ما زال أمراً سلبياً لا يدعو للفرح، فأنت تقول للناس: لقد تمت سرقتكم وليس في اليد حيلة.

آخر أخبار لبنان هي العتمة المرتقبة، تقنيناً أو شمولية، قبل السلفة من أموال المودعين، وربما بعدها بأسابيع. لا داعي أن ننقل تغريدات الناشطين، حيطان مواقع التواصل تكاد تمتلئ بأخبار عن شحّ الفيول اللازم لتشغيل معامل الكهرباء التي سيتم إطفاؤها بعد يومين أو أسبوعين أو شهرين... وأخبار عن تقنين سيمارسه أصحاب المولدات هذه المرة.. عدا تذمر الجميع من الفاتورة المرتفعة للمولدات والتي بات نصف الشعب اللبناني عاجزاً عن دفعها. والآن، التغذية بالانترنت، وقد تأثرت بدورها بأزمة الكهرباء، والانترنت ليس ترفاً، إنه العمل من بعد، والدراسة من بعد، والتواصل الحيوي بين الناس... هكذا، جولة قصيرة في مواقع التواصل كفيلة بأن تصيبك بالكآبة من الآتي، وبالخوف.
 

والعتمة، التي ما برحت نشرات الأخبار تكررها ومرادفاتها الظلامية، وصف مجازي لغياب الكهرباء، حيث أن الاضاءة ستكون أهون المشكلات. يستطيع أي إنسان الاستعاضة عنها بإشعال شمعة، لكن ماذا نفعل مع انقطاع الانترنت الذي سيؤثر في الأعمال التجارية كلها؟ وماذا عن رداءة وسائل التواصل وشبكات الهاتف؟ وهناك التعليم أونلاين، تبريد اللحوم والأطعمة القابلة للتلف، والتكييف، إذ ستكون الحياة في المدن الساحلية صيفاً عبارة عن جحيم لا يطاق. العتمة تعني حرفياً العودة إلى الوراء أكثر من خمسين عاماً، إلى زمن لا دراية لنا بأساليب النجاة فيه.

يشبّه البعض القدر الآتي لا محالة بزمن التسعينيات، بأسلوب تطغى عليه أحياناً، السخرية أو النوستالجيا والحنين. حنين إلى السراج واللوكس وقناديل الكاز، بطاريات "ريو فاك" لتشغيل أجهزة الراديو، الغسيل اليدوي، الشموع وأشرطة الكاسيت والأجواء العائلية التي كان من المتعذر علينا كأطفال، عشنا تلك المرحلة، أن نشعر بكآبتها.

تلك المرحلة التي أتت بعد حرب أهلية وانهيار نقدي أصاب لبنان، كانت إلى حد ما شبيهة بما نمر به اليوم. نحن كأطفال ولدنا في الثمانينيات أو أوائل التسعينيات، كان الفقر وتردي كل شيء، هو الواقع الوحيد الذي نعرفه، اعتقدنا أن العالم كله يعيش في البؤس نفسه، وكنا عاجزين عن فهم مسحة الكآبة على وجوه آبائنا الذين عاشوا ازدهار الستينيات وأوائل السبعينيات، ثم انهاروا مع نهاية الحرب. مسحة الكآبة نفسها الموجودة على وجوهنا، اليوم، والتي لن يفهمها أبناؤنا بسهولة.

بالنسبة إلى أطفال اليوم وشباب اليوم، هؤلاء الذين لا يعرفون العالم من دون كهرباء، تتمحور هواياتهم حول ألعاب البلاي ستايشن، الغرف المكيفة، أجهزة الآيباد ومشاهدة الحلقات التعليمية في "يوتيوب"، أو متابعة أصدقائهم في مواقع التواصل،.. هؤلاء ماذا نقول لهم؟ كيف نشرح لهم، مع كل الذكاء الذي يتفوقون به علينا، أننا دخلنا مساراً دودياً في الفضاء أدى لعودتنا في الزمن خمسين عاماً أو أكثر؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024