موفدة "لوريان لوجور" لمحاكمة منصور لبكي...كلمات عما لا يُقال

المدن - ميديا

السبت 2021/11/13
مقال للزميلة كارولين حايك، موفدة صحيفة "لوريان لوجور" اللبنانية الناطقة بالفرنسية، إلى محكمة كاين الفرنسية لتغطية وقائع محاكمة منصور لبكي. نُشر المقال بالفرنسية، في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وترجمه روجيه عوطة لتنشره "المدن" كوثيقة على تاريخ مديد من الإجرام الجنسي اقترفه الكاهن اللبناني الماروني، منصور لبكي، في حق أطفال، وهو المجرم الذي أدانه الفاتيكان، والآن محكمة فرنسية بحُكم غيابي بالسجن 15 عاماً.. وما زالت السلطات الدينية والقضائية اللبنانية تحميه. هنا نص المقال بالعربية:


أطفئت الأضواء التي سُلّطت على منصور لبكي. فقد حُكم الكاهن الماروني، يوم الإثنين، من قبل القضاء الفرنسي بالسجن 15 عاماً بسبب إقدامه على اغتصاب القاصرين والاعتداء الجنسي عليهم. في نطاق محكمة كاين، تتالى ضحاياه لكي يشهدوا، وهذا، بعد ثمانية أعوام من فتح الملف. لقد أتوا إلى المحكمة، وبعضهم من بعيد، لكي يعبّروا عما لا يقال أمام القضاة، وتحت عيون الجمهور. في هذه الحلبة، النساء يصنعن القانون. بداية، رئيسة المحكمة، القاضية جان شيين، ثم محامية الضحايا، سولانج دوميك، وأخيراً فلورانس رول، التي جاءت لتدافع عن المتهم اللبناني.

ضمن صمت كصمت الكاتدرائية، الساعة التاسعة صباحاً، انطلقت المحاكمة. لعبت محامية الدفاع عن منصور لبكي، "كارتها" الأول، طالبة رد الدعوى نتيجة متابعتها دعوى أخرى في باريس بعد الظهر، أي قضية استفتاءات الإليزيه، حيث تدافع عن الكاتب المنتمي إلى اليمين المطرف باتريك بويسون. تحدثت عن "ضرورة إلزامية"، مفادها أنها لا يمكنها ترك "موكلها بمفرده". خلفها، الحجرة فارغة. فموكلها الثاني، الذي قالت أنها لم تلتق به سوى عبر "سكايب" وحين لا يكون "التيار الكهربائي" مقطوعاً لديه، لم يكن هنا. تلتقط القاعة أنفاسها. "لا مجال لأي عائق"، شددت سولانج دوميك. لكل هؤلاء الذين واللواتي ينتظرون هذا اليوم منذ ثمانية أعوام، يبدو ذلك الالتماس بمثابة إساءة. بعد دقائق، باء رد الدعوى بالفشل. خسر الدفاع ورقته الرابحة، وصار من الممكن للنقاشات أن تبدأ. شرعت رئيسة المحكمة في عدّ الأعمال التي أقدم المتهم عليها، وهذا، في حين أنه يلمع بغيابه. قُدّم عبر سيرته الذاتية. إنها سيرة طويلة، طويلة للغاية. في القاعة، مناصروه يهزون برؤوسهم خلال قراءة مساره، على ماذا أقدم، كيف دخل في دوائر السلطة، الفنون، المال. القاضية تذكّر بمجزرة الدامور، التي كان لبكي شاهداً عليها العام 1976. تحدد القاضية أن المجموعات الفلسطينية ارتكبتها "على الشاطئ اللبناني".. و"القوات المسيحية هي أيضاً اقترقت مجازر خلال الحرب"، تضيف.

"محنّك، كما يمكن للبناني أن يكون"
إنها محاكمة خوري بعبدات، الذي عرف كيف يغطي مكسبه حين ذهب لمساعدة الأيتام في أثناء الحرب، لكن، خصوصاً حين انطلق في استعراضيته طوال حياته. عبر الشهادات، المحكمة تذكّر بـ"احتفالات لتمجيده، تصرفات "غريبة" من قبله مع الأطفال، بحيث أنها كانت عارية من أي بعد روحي. "ناشط إيماني"، "جانب مهضوم، حنون، وضاحك"، لا شيء سوى ذلك هو لبكي بالنسبة إلى محامية دفاعه. "يحمل قيمة الشرق"، تقول رول، "محنك كما يمكن للبناني أن يكون".

دومينيك(*)، سيدة فرنسية تبلغ من العمر 38 عاماً، تتقدم على مهل. إنها واحدة من ثلاث مشتكيات، والوحيدة التي تتابع الملف من كثب. على هذه الأم أن تشهد في مكان مقفل، ولكن، وبفعل شجاعة، قررت أن تفعل ذلك على الملأ. في العام 1996، أُرسلت إلى الأب لبكي الذي يعرف أهلها، والذي يدير مسكناً في دوفر-لا ديليفراند. تمردت المراهقة. لكن، في مكانها الأول، التقليدي والكاثوليكي، لا أحد يثور على أهله. اجتثها لبكي من سياق عائلي صعب، بين أم متدهورة بفعل ولادة طفل معوق، وأب عسكري عنيف، يمضي الغالب من وقته في مسارح الحرب أكثر مما يمضيه في المنزل. لا يجهل لبكي كل هذا. في المسكن، كان يضغط عليها لكي تلحق به إلى غرفته مساءً. رفيقاتها الصغار قلن لها ألا تبوح بأي شيء حين ستصير في دوراتها الشهرية الأولى. رفيقة من رفيقاتها ستكون نمامة. ابتداءً من هذه اللحظة، سيقدم لبكي على اغتصابها للمرة الأولى "جاثماً فوقها بكل وزنه". الكلمات قاسية. دومينيك تغرق في دموعها. إذ ترى الطفلة الصغيرة التي كانت، مقرفصة في غرفة الطعام، باكية "كل روحها"، غير قادرة على فهم ما حدث لها. الاعتداءات ستستمر طيلة العام الدراسي، قبل أن يقرر أهلها إرسالها إلى مؤسسة أخرى.

ستدفن دومينيك كل هذه الذكريات في ذاكرتها. "كنت اصاب بكوابيس دوماً بأن لبنانيين يأتون لاعتقالي"، تروي. من علاقاتها المكرهة، تلتقط مرضاً جنسياً مُعدياً، لكنها لا تفهم ما حدث لها. كغيرها، تروي انجذاب الكاهن للأثداء، أثداء ضحاياه، والأثداء التي يطلب منهم تمسيدها. شهد أهل دومينيك بدورهم عبر الفيديو. "يعرف كل العالم الباريسي والفرسايي، لبكي كان قد خلق نظاماً خارجاً عن أي تشكيك فيه"، تبرر الأم.

السنوات تمر والتروما تعود وتبرز. تزوجت دومينيك، وفهمت أنها كانت قد تعرضت للاغتصاب. في ليزيو، العام 2016، التقت أمها بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي أتى ليفتتح كنيسة من أجل لبنان. "تحدث معي بفوقية"، قالت. ثم، ومتفرسة في عيونه، قالت له إن طفلة عمرها 13 عاماً تبكي كل مساء.

محامية لبكي بدت ضجرة. لا أحد يتكلم بين الحاضرين. لا دموع. قدمت الوقائع في هدوء، بحياء، لا تقطعها سوى تصرفات "الشرقي" حسبما تسميه ضحاياه الفرنسيات، والذي "يجبر النساء على أن يلمسن أثداءهن على الملأ" بحسب شهادات كثيرة. الآنسة رول تشير إلى عنف والد دومينيك، تتحدث عن قصة سفاح قربى كبيرة. "ربما هناك صلة بين هذا الأمر وما تتحدث عنه دومينيك حول لبكي"، تتساءل المحامية، محاولةً التشبث بكل الحجج الممكنة. المحكمة تتأسف لمرات متعددة لغياب المتهم، فتردّ المحامية "بأنه مريض جداً، ما يمنعه من السفر". "لا يمكنه خرق العقوبات عليه من قبل الأسقفية"، تقول. في العام 2013، كان قد أُعلن مذنباً من قبل الفاتيكان بسبب اعتدائه الجنسي على ثلاثة قاصرين. محامية الدفاع عن الضحايا أشارت إلى تغريدة نُشرت العام 2021، وقد ظهر لبكي فيها بصحة جيدة أمام طاولة، وضعت عليها قوالب غاتو بمناسبة أحد أعياد الميلاد. "لم يُمنع من حضور أعياد الميلاد حتى"، تردد محامية لبكي، المشاركة في تأليف كتاب بعنوان "ديكتاتورية العواطف"، الذي تكتب فيه أن "تقديس كلام الأطفال بالمعنى الديني للكلمة"، سيغرق المجتمع الفرنسي في "عصر التوجس"، و"الخلائط". يتدخل طبيب نفسي منتدب من قبل المحكمة لكي يعرض خلاصاته حول شكوى دومينيك، متحدثاً عن "كبت"، عن "آلية كلاسيكية للدفاع النفسي". "لا شيء يترك أثره في أقوالها"، يخلص الى القول. فلطالما أقدم مناصرو لبكي على تظهير ضحاياه بمظهر "المجنونات"، "الكذابات"، إذ ينتمين إلى "عصبة مشكّلة ضده".

جلبة نعاله
الأخت "ل" ترتدي حجاباً وقلنسوة بكروشيه أبيض. هذه الشاهدة، التي كانت هي أيضاً ضحية اعتداء جنسي عليها، تتقدم بدورها أمام القضاة على مهل. دارت المقابلة معها في غرفة مقفلة. طُلب من الحاضرين ان يخرجوا. في الخارج، مناصرو لبكي، الذين ينتمون إلى أوساط كاثوليكية متشددة، يشرعون في الاستجواب. "إنه ضرب من البورنوغرافيا"، يقول بعضهم، "إنهم يكذبون"، يقول بعضهم الثاني. المعسكران ينظران إلى بعضهما البعض بازدراء، متحاشين التلاقي.

في نهاية المقابلة المغلقة، ماريلين غانم، الضحية اللبنانية التي تعرضت للاغتصاب في الثمانينات، تأخذ الكلام عبر الفيديو. "أردت دوماً أن أكون أباكِ، لا شيء أكثر من ذلك. لقد رضيت بما طلبتِه مني"، كان لبكي قد قال لها.

يقرأ القضاة شهادات ضحيتين أخريين، ريتا وهيلين، أختان لبنانيتان، كانتا قد وصلتا إلى ميتم لبكي في عمر السابعة والحادية عشرة، وقد تعرضن للاغتصاب من قبله أيضاً. قُتل أهلهما جراء قذيفة في العام 1983، يومها فقدت ريتا عدداً من أصابعها. في فرنسا، يقدم لبكي على عرضها من أجل الحصول على مساعدات. اعتدى عليها، وعلى أختها، طوال سنوات. "كنت لعبته الجنسية"، تكتب ريتا، "قبل أن يرميني". "لقد قرفني الرجال". لم تقدر الأختان على المجيء. الكثير من الضغوط، من التهديدات بحقهم في لبنان، حيث ما زالت ريتا تعيش. أما هيلين، فقد هربت إلى أبعد ما يمكنها. بعد ذلك، يتصل بماري، وهي إحدى العاملات في ميتم لبكي، حيث أتت بعمر 18 عاماً للتطوع، من فرساي، بإسم مميز، "فريسة مثالية للكاهن"، يقول القضاة. "كنت وزناً ميتاً"، تقول ماري في روايتها لاعتداءات لبكي الجنسية عليها. تقول ماري أيضاً أنها ما زالت تتذكر جلبة نعاله في الممرات عندما يتقدم من حجرته خلال المساء. كماريلين، تتذكر ماري الطعم "الحاد" لسائله المنوي بعد 15 عاماً على وقائع الاعتداء. في القاعة، البعض يرفع عيونه إلى السماء. البعض الثاني يقفل آذانه أو ينزل رأسه. لا يمكننا أو لا نريد تصديق ما فعله الحَبر.

"أهلي لا يعرفون كل شيء"
لوسيل لم تصدق البتة. الأب لبكي كان صديق العائلة، معرفها. تروي، وفي أثناء وقوفها باستقامة أمام القضاة، كيف اقدم منصور لبكي على "إطعامها الثناء"، قبل أن تصل إلى التفاصيل المزعجة. "أهلي لا يعرفون كل شيء"، قالت بحنجرة يابسة. تبلغ من العمر 40 عاماً. يجلس والديها في الطرف الآخر من القاعة. "لمس منصور لبكي قضيب أخي الصغير". تلتقط أنفاسها. "إنه حاضر في القاعة". النظرات تتجمد. حتى العام 2020، كانت لوسيل في لجنة الدفاع عن لبكي، وذلك، حتى فهمت أنها كانت تحت سطوة "معلم روحي"، تماماً مثل ريتا التي كانت صديقتها آنذاك. "ما يقوله هو المهم، وليس ما يقوله الانجيل"، تشدد. "تريدين القول أنك كنت، طوال هذه الأعوام، تحت السطوة، عبارة على الموضة، وقد وعيت لذلك في عمر 38 عاماً؟"، تسأل محامية الدفاع عن لبكي. "نعم، أهلي ما زالوا تحت تلك السطوة، ويبلغون من العمر سبعين عاماً، سيدتي"، ترد لوسيل بطريقة حاسمة. كدليل على طاعتهم، أرسل الأهل رسالة دعم إلى لبكي، وقد أخرجتها محامية الدفاع عنه من قبعتها فوراً.

سيليست عقيقي، ابنة أخت منصور لبكي، لم تفوّت هذا اليوم. أتت من بعيد لكي تشهد ضد هذا الخال الذي أخذ منها كل شيء." مع الفساد الراهن، لا يمكنني أن أنتظر من القضاء اللبناني أن يتحرك"، تقول. في ضبوطه، المحامي العام يجد أن المتهم "يواظب على الحط من قدر المشتكيات"، ويلتمس معاقبته بحكم 15 عاماً بالسجن لكي يدرك "خطورة أفعاله". "كم من الأطفال في لبنان في وسعهم أن يقدموا على الكلام؟ "، تقول دوميك في أثناء مرافعتها. "الطفل مقدس، أكثر قداسة من كاهن، هو حر، حر في خيارات"، تضرب بالمطرقة.

(*) الضحايا ومحاميتهن طلبن من الصحافة عدم نشر أسمائهن وأسماء الشهود الذين كانت لهم شجاعة الإطلالة على الجمهور.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024