بيروت اللقيطة

عزة الحاج حسن

الإثنين 2019/07/15
عندما تجوب شوارع مدينة طنجة المغربية وترتاد بحرها، تخال نفسك للوهلة الأولى في بيروت، المدينة العتيقة التي تحتضن الكثير من العراقة والتاريخ الممتزج بالعصرية.. لكن بعض التفاصيل الصغيرة "التافهة أحياناً" تكشف بوضوح عُريّ بيروت وافتقارها لأبسط  محاولات الرعاية والإهتمام.

قليلة هي الفوارق بين المدينتين لجهة الطبيعة الجغرافية والتنوع الديموغرافي والثقافي وانفتاح سكانها على الآخر، فلا يمكن للمرء أن يميز بسهولة بين شاطىء طنجة وخليجها، وبين شاطىء بيروت والزيتونة باي، مع فارق أساسي هو أن شاطىء طنجة في غالبيته العظمى "حُرّ" مفتوح للعموم لا للمشاريع العقارية المشبوهة أو المنتجعات السياحية الفارهة.

تلك البيروت (طنجة) لم تَغب عن القيمين عليها حاجة فقرائها وعمالها المنهكين لمساحات يرتادونها للراحة والتنزه، فلم يخصصوا مساحات للحدائق فحسب، بل جعلوا من أراضيها وأمتارها البور مكاناً لتنشق الهواء. يرتاد أهالي طنجة وسكانها، الحدائق العامة المنتشرة بكثرة في أحياء المدينة وبين مبانيها، كمن يتنزه في حديقة منزله. لا رسوم ولا موانع ولا مواعيد محددة للإقفال كحدائق بيروت العامة. تكسو المساحات الخضراء، في طنجة، كافة المساحات الفارغة، في الأحياء الفقيرة أو الراقية، بين المباني، بمحيط الشوارع، وحتى تلالها الصغيرة تكتسي جميعها العشب الأخضر المزروع.

لا تقِل مدينة بيروت جمالاً وسحراً عن طنجة، إنما تقل عنها نظافة وأناقة واهتماماً بحاجات سكانها... لا يعاني قاطنو طنجة أزمة نفايات موسمية.. ولا هم مشغولون بطرق المعالجة. فهناك من يلعب دوره بلا تهاون، ويبدو ذلك جلياً في نظافة الشوارع وانتشار حاويات النفايات المخصّصة للفرز.. تخيلوا أننا وصلنا الى مرحلة بتنا نحسد فيها سكان المدن النظيفة.. نعم نحسدهم على نظافة مدنهم وصحة هوائها ومراعاتهم للبيئة التي نفتقد.

يتوقف المرء في طنجة عند أمور قد تصنّف بمقياس الحياة الطبيعية بـ"البسيطة" أو "التافهة".. إلا أنها تشكل عائقاً أحياناً في وجه اللبناني تحول دون استمتاعه بمقومات بلده ومكانز الأرض التي تأويه، فكيف يمكن أن يزور مئات الآلاف من المغاربة والسياح مغارة هرقل التاريخية أو أي معلم تراثي آخر بشكل مجاني على مدار السنة، في حين تُحرم غالبية اللبنانيين من التعرّف على مغارة جعيتا لارتفاع ثمن بطاقة دخولها.

نعم يتوقف اللبناني أمام تفاصيل كثيرة، بينها عمران طنجة وهندسة منازلها المستوحاة من الأندلس ومن المستعمر الأوروبي، فهي حافظت على نفسها رغم الطفرة العمرانية والتوسع الذي عايشته، حافظت على رونق أبنيتها وعلى طراز شبه موحد يجمع في ما بينها، ليعكس لوحة فنية كبيرة. فيما تشهد بيروت هجمة شرسة منذ سنوات على أبنيتها التراثية العابقة بتاريخها القديم، وتتعرض لسياسة الهدم وتشييد الأبنية الشاهقة، ما يجعل أحياء بيروت، أحياء غير متجانسة، لا تعكس سوى صورة التفاوت الطبقي الذي تكرسه ممارساتنا.

تعيسة هي بيروت كما باقي المدن اللبنانية، لم تحمها ثقافتها ولا عراقتها ولا حتى جمالها، من التعاسة. تبدو الى جانب طنجة كطفل لقيط، لا مَن يستمع إليه ولا من يرعاه، ينمو ويكبر ويشيخ وحيداً مهملاً، يحاول استرجاع ذكريات داس عليها الدهر ومضى. تعيسة هي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024