"اللوبي": أزمة إسرائيلية داخلية

شادي لويس

الأربعاء 2017/01/11
بعد زيارة وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، جلعاد أردان، للندن، في سبتمبر (ايلول) الماضي، أرسل مسؤولو السفارة الإسرائيلية بالعاصمة البريطانية برقية، نشرتها جريدة "هآرتس" لاحقاً، تحذر وزارة الخارجية الإسرائيلية من أن "إدارة" المنظمات اليهودية البريطانية من القدس، من قبل وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية، هو أمر غير قانوني وخطير، وهو ضار أيضاً بمنظمات اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا، ويمكن له أن يأتي بعواقب عكسية وخيمة. 
لم يستغرق الأمر سوى بضعة أشهر قبل أن تتحقق تحذيرات الدبلوماسيين الإسرائيليين. فعلى إثر بث قناة "الجزيرة"، تحقيقها الوثائقي، "اللوبي"، والذي كشف تسجيلات لأحد المسؤولين السياسيين بالسفارة الإسرائيلية، شاي ماسوت، يتحدث فيها عن تورطه في إنشاء منظمات بريطانية تعمل لصالح إسرائيل بشكل غير معلن، وسعيه لتشويه عدد من نواب البرلمان البريطانيين الذين يعتبرهم معادين لإسرائيل، إنطلقت دعوات من كافة الأحزاب البريطانية تدعو لفتح تحقيق في التدخلات الإسرائيلية في الشأن الداخلي البريطاني، بوصفه أمراً يتعلق بالأمن القومي.  

وبالرغم من أن الزوبعة التي أثارتها الحلقة الأولى من تقرير"اللوبي" سرعان ما انحسرت، بعدما اعتذر السفير الإسرائيلي عن حديث ماسوت، والذي وصفه بأنه غير مقبول، ووعد بإنهاء عمله بالسفارة، وكذلك بعد استقالة مساعدة وزير التعليم البريطاني، ماريا ستريزولو، التي ظهرت مع ماسوت في أحد المقاطع المصورة، فإن أزمة "اللوبي" القصيرة تكشف أكثر من الدور الذي تلعبه جماعات الضغط الإسرائيلية في السياسة البريطانية. 

فبعدما صعدت الإدارة الإسرائيلية من خطابها ضد حملة "بي. دي. أس"، ووصفتها بأنها "تهديد إستراتيجي"، قام رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، بتسليم مهمة التصدي لحملة المقاطعة الموجهة ضد إسرائيل، إلى وزارة الشؤون الإستراتيجية، وعلى رأسها، جلعاد أردان، الذي يتولي حقيبة الأمن الداخلي كذلك. 

جاء انتقال ملف "بي. دي. أس" من وزارة الخارجية ونطاق الدبلوماسية، إلى الأمن، في سياق اهتمام نتنياهو المتواضع بوزارة الخارجية-التي يتولى حقيبتها بشكل شخصي، وتشككه الواضح في قدرة الوسائل الدبلوماسية في مواجهة التحديات المتنامية التي تواجهها إسرائيل على الساحة الدولية. 

لاحقاً، وبعد توليه ملف "بي. دي. أس"، نقلت وسائل الإعلام سلسلة من تصريحات أردان العنيفة ضد بريطانيا، والتي وصفها بمركز حملة المقاطعة العالمية، وتوعدها بأنها ستدفع ثمن عدائها للسامية. وفي زيارته الأخيرة للندن في سبمتبر (أيلول) الماضي، التقى أردان بعدد من مسؤولي السفارة البريطانية، كان بينهم محور أزمة "اللوبي"، شاي ماسوت. 

أزعجت تصريحات أردان، وسياسات وزارته للشؤون الإستراتيجية في بريطانيا، دبلوماسيي السفارة الإسرائيلية في لندن، الذين سجلوا في برقيتهم تحذيراً لمندوبي وزارته من التظاهر بأنهم من العاملين بالسفارة، ومن تخطي وزارة الخارجية والعمل دون التنسيق معها: "فعملية مثل هذه، ستقابل بمعارضة من داخل المنظمات (الداعمة لإسرائيل)، بسبب وضعها القانوني في المملكة المتحدة، فبريطانيا ليست الولايات المتحدة". 

لكن ذلك الإنزعاج لا يعود فقط إلى تغول وزارة الشؤون الإستراتيجية، والمنطق الأمني، على حساب صلاحيات الدبلوماسية الإسرائيلية، بل الأهم هو أن عمليات الشؤون الإستراتيجية غير القانونية والخطرة، غير ضرورية بالمرة في بريطانيا، سواء بالنسبة لبناء اللوبي الداعم لإسرائيل، أو في ما يخصّ حملة "بي. دي.أس" على وجه التحديد. 
البريطانيون، وبسبب الدور المركزي الذي لعبته بلادهم في إقامة ورعاية الوطن القومي لليهود، لا يعانون أزمة الشعور بالذنب تجاه إسرائيل التي تعانيها مجتمعات أوروبية أخرى، ما يسمح للمجتمع البريطاني بأخذ مواقف أكثر نقدية تجاهها، خصوصاً مع شعور متأخر بالذنب أو المسؤولية التاريخية تجاه معاناة الفلسطينيين. لكن ذلك لا ينفي أن منظمات اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا هي الأكثر تاريخية وتأثيراً في أوروبا، وتتمتع بالعمل بشكل علني وتحظى بقبول واسع من المؤسسات السياسية البريطانية. 

لا تقتصر روابط اللوبي الإسرائيلي على اليمين البريطاني فقط، ممثلة في رابطة حزب المحافظين البرلمانية "أصدقاء إسرائيل"، فأول رابطة برلمانية "لأصدقاء إسرائيل"، تعود إلى حزب" الديموقراطيين الأحرار"، ولا يبدو حزب العمل إستثناء. فكل من توني بلير، وغوردون براون، واللذين توليا رئاسة آخر حكومتين عماليتين، كانا عضوين في رابطة "أصدقاء إسرائيل" العمالية. 

وبالإضافة للروابط السياسية والحزبية العلنية الداعمة لإسرائيل، فإن عشرات من المنظمات المهنية والدينية والمالية والأكاديمية الأهلية، الداعمة لإسرائيل، يحظي عملها بقبول معتبر في بريطانيا، نظراً لإستقلالياتها النسبية، مقارنة بمثيلتها في الولايات المتحدة، الأمر الذي يسمح لها بلعب دور مؤثر في رسم السياسات البريطانية في ما يخص الشرق الأوسط. 

على سبيل المثال، فإن جهود منظمات اللوبي الإسرائيلي المتعلقة بحملة "بي. دي. أس"، إنتهت بحكومة كاميرون بإصدار قواعد استرشادية تمنع المؤسسات الحكومية، والمجالس المحلية والإقليمية في بريطانيا، من مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، في أكتوبر 2015، لتكون بريطانيا هي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي الذي تتخذ مثل هذا القرار الإستثنائي. ولاحقا، وفي نهاية العام الماضي، صرح وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، توبياس ألوود، بأن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، سيمنحها حرية أوسع في الحركة في ما يخص العلاقات التجارية مع إسرائيل، مشيراً ضمناً إلى التحرر من قيود الإتحاد الاوروبي المتشددة تجاه منتجات المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية.  

هكذا، وفيما انتهت أزمة "اللوبي" إلى حين، بعد قبول الحكومة البريطانية لإعتذار السفارة الإسرائيلية وتأكيدها في بيانها على عمق العلاقات بين البلدين، مع عدد من المقالات والتصريحات الغاضبة هنا وهناك، والاطاحة بموظفين صغيرين في السفارة الإسرائيلية ووزارة التعليم البريطانية، واللذين تم التهوين من حديثهما المسجل بوصفه "ثرثرة، ونميمة في جلسة ودية"، فإن الأزمة تكشف تضارباً في عمل المؤسسات الإسرائيلية، وتجاذبات بين إداراتها، في سياق نزوع الحكومة الحالية لتغليب الأمني على الدبلوماسي، والسري على العلني، مدفوعة بعصبية شديدة ضد أي صورة من صور النقد الدولي للإحتلال والاستيطان، وبسياسية تآمرية تبدو اليوم نتائجها العكسية على جماعات الضغط البريطانية الداعمة لإسرائيل متحققة، لتؤكد مرة أخرى بأن التراجع الحالي للموقف الإسرائيلي دولياً، يعود في الإساس إلى سياسات حكومة نتنياهو الحادة وغير المبررة أحيانا كثيرة، لا إلى تخلي حلفائها وداعميها عنها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024