Leaving Neverland: هل يمكننا الاستماع إلى مايكل جاكسون مجدداً؟

وليد بركسية

الأحد 2019/03/10
للوهلة الأولى، تبدو بعض وسائل الإعلام العالمية هستيرية في ردة فعلها على الفيلم الوثائقي "Leaving Neverland" (الخروج من نيفرلاند) الذي يناقش مزاعم التحرش الجنسي للنجم العالمي الراحل مايكل جاكسون، بما في ذلك دعوات صحف مثل "غارديان" و"إندبندنت" و"سي إن إن" لعدم الاستماع إلى أغانيه بقرار شخصي، أو ما قامت به إذاعات حول العالم من إيقاف لبث موسيقىه نهائياً، لكن مشاهدة الفيلم والاستماع للضحايا يروون قصصهم تكسر هالة النجومية المحيطة بـ"ملك البوب"، وتقدمه بصورة مختلفة.


ورغم أن مزاعم التحرش الجنسي بالأطفال ضد جاكسون ليست جديدة، بل طاردته منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى محاكمته الشهيرة بين العامين 2003 و2005، حينما انصدم العالم برؤية أشهر رجل على الكوكب مقيداً بالأصفاد في طريقه إلى التحقيق، إلا أن العالم لم يسمع قصص المتهمين بوضوح، بما في ذلك التفاصيل الجنسية المريعة، وسط المصطلحات القانونية وجدل وسائل الإعلام، ثم إعلان براءة جاكسون، التي كانت فيها أقوال الشهود، عاملاً حاسماً في البت بها.

ويقدم الفيلم طوال أربع ساعات كاملة، منصة للراقص والموسيقي وايد روبسون، والممثل السابق جايمس سافشوك، لعرض اتهاماتهما ضد جاكسون ويشرحان كيف تم التلاعب بهما طوال سنوات وكيف جذبا إلى عالم جاكسون الخاص بفعل قوة نجوميته، وكيف تم استغلالهما جنسياً منذ كانا في السابعة والعاشرة من عمرهما على التوالي.

الفيلم من إخراج وإنتاج المخرج البريطاني دان ريد وعرضته شبكة "إتش بي أوه" الأميركية مؤخراً وواجه عرضه مظاهرات وانتقادات من قبل جمهور جاكسون حول العالم، ويمكن ملاحظة حملة مضادة في الإنترنت وفي شوارع مدن كبرى مثل لندن، تنادي ببراءة جاكسون من المزاعم، فيما يتم التحضير لفيلم وثائقي مضاد لتفنيد الادعاءات نفسها، وتقدم الحملة المضادة تفنيداً دقيقاً للمزاعم، وتفكك الشهادات وتعطي تفصيلاً عن أسباب توجيه الاتهامات في هذا الوقت بالتحديد، والتي تتعلق بمنافع مادية ضخمة قد يتحصل عليها روبسون وسافشوك بطريقة غير مباشرة، في حال تم إحياء الدعاوى القضائية ضد ورثة جاكسون كنتيجة للفيلم والضجة العالمية التي حظي بها.

ورغم أن جاكسون كان في أحد الأيام، أشهر رجل على الكوكب، ومازال واحداً من أقوى المشاهير على الإطلاق حتى بعد وفاته العام 2009، إلا أن الأضواء في الفيلم تتركز على روبسون وسافشوك، كضحيتين صامتتين في ظل رجل يتمتع بنفوذ لا يصدق من ناحية المال والشهرة والعبقرية والحب، ويتقلب الفيلم في عرض تفاصيل تلك العلاقة المعقدة التي جمعت الصبيين الصغيرين المعجبين بملك البوب مع عائلتيهما حتى باتا رجلين في العقد الرابع من عمرهما، لا يكرهان جاكسون رغم إدراكهما أن ما قام به كان جريمة.

والحال أن أكبر انتقاد يمكن أن يوجه للفيلم، هو استناده إلى مزاعم غير مؤكدة لأحداث يفترض أنها وقعت منذ 20 سنة وتعامله معها كحقائق مؤكدة، بالإضافة إلى أنه أفرد مساحة 4 ساعات لشخصين أدليا بشهادات تحت القسم في محاكمات جاكسون السابقة لنفي المزاعم نفسها، ما يجعل الفيلم يستند فقط إلى أقوال "شاهدي زور"، لكن ذلك الانتقاد يصطدم بقصة نفسية متقنة من الصعب تكذيبها، مع كمية من المشاعر المؤثرة، تجعل بطلي القصة إما صادقين تماماً أو ممثلين بارعين قادرين على تقديم محاكاة بهذه الدرجة من الإقناع.

يضاف إلى ذلك حقيقة أن الفيلم متحيز لدرجة كبيرة بعرضه قصة من طرف واحد فقط، لكن ذلك أيضاً مبرر نظراً للظروف التي تجعل من قصة جاكسون المضادة معروفة للجميع على الكوكب، ما جعل أصحاب الفيلم يتخذون قراراً واعياً بالانحياز إلى طرف وتخصيص الفيلم كمنبر يعطي "الضحيتين" إمكانية تقديم قصتهما، مهما كان ذلك القرار جدلياً بالنسبة للمنظرين حول "حيادية الإعلام"، علماً أن الرواية البديلة تقول أن جاكسون ضحية الإعلام والصواب السياسي والطامعين بثروته الطائلة، منذ كان على قيد الحياة، وبالتالي يصبح الانحياز له ضمن تلك الرؤية مشروعاً أيضاً.

مشاهدة الفيلم مزعجة ومربكة إلى حد كبير، فهي تحطم سمعة شخصية أسطورية غيرت وجه الموسيقى في العالم، ليس بعرض الاتهامات المعروفة بل لأنها تحطم الأساس القانوني الذي استندت إليه الميديا والمعجبون للرد على الاتهامات، أي قرارات المحاكم الأميركية النزيهة ببراءة جاكسون، لأن تلك القرارات لم تكن لتصدر لولا شهادات روبسون وسافشوك، ما يعيد القضية كلها إلى خانة الشك حيث تغيب الحقيقة إلى الأبد، خصوصاً أن المتهم ميت وبالتالي لا يمكنه الدفاع عن نفسه، وهو السبب الذي جعل محكمة أميركية ترفض دعوى قضائية تقدم بها روبسون العام 2013 ضد جاكسون بنفس الاتهامات.

الموقف الأخلاقي للفيلم يجعله شجاعاً في تحدي شخصيات أيقونية وذات نفوذ، بغض النظر عن مصداقية أقوال الشهود، لأن ذلك التحدي وطرح الأسئلة المحرجة وإثارة القضايا التي يتحاشى الجميع الحديث عنها لحساسيتها، هو مهمة الإعلام في النهاية، ومن المروع تخيل عالم يكون فيه الإعلام صوتاً لأصحاب النفوذ فقط من سياسيين وأثرياء ومشاهير، وليس لجميع الناس، حتى المهمشين الذين قد لا يصدق قصصهم أحد، علماً أن مستوى التهميش نسبي، فروبسون مثلاً مشهور بتصميم الرقصات لكبار النجوم العالميين مثل بريتني سبيرز، إلا أنه شخص مغمور مقارنة بأيقونة مثل جاكسون.

ومن السهل القول أنه يجب فصل الفن عن العامل الشخصي، وهي دعوات تشابه دعوات فصل الفن عن السياسة في الدول الشمولية مثل سوريا، مع اختلاف المقاييس الفنية والأخلاقية، خصوصاً أن الفنانين في تلك الدول قد لا يقومون بالفعل المؤذي بل يدافعون عن القائم به، كالنظام السوري مثلا، لكن "الخروج من نيفرلاند" يصور جاكسون كشخص يقوم بالفعل المؤذي، بوعي تام وتخطيط واستغلال لهالة النجومية المحيطة به والموسيقى التي يقدمها، ويصبح الإطار العام للفيلم هو تلك الهالة من النجومية، وعلاقة عالم المشاهير بالناس العاديين من الطبقة المتوسطة في عالم تحكمه التكنولوجيا التي تعزز الوهم بمعرفة المشاهير على المستوى الشخصي لمجرد متابعتهم طوال الوقت عبر شاشات التلفزيون في المنازل المتواضعة.

يستمد الفيلم بعضاً من قوته أيضاً من جو عام أحدثته حملات أخيرة مثل "مي تو" و"تايمز أب" لفضح المتحرشين، في عصر الصواب السياسي الذي تقوده وسائل إعلام نخبوية، والتي بلغت حد الحكم بالذنب لمجرد الاتهام "Guilt by Association"، وهو ما تكرر مع أسماء مثل كيفن سبايسي وهارفي واينستاين وغيرهم، وهو ما لا يجب أن يتكرر مع جاكسون، كأعظم موسيقي في القرن العشرين، ومن السهل تخيل عقد محاكمات تفتيش أخلاقية، لأي شخص سيستمر في الاستماع لموسيقى جاكسون في الفترة القادمة عبر وصفه بأنه "متحرش بالأطفال" أيضاً.

ووسط هذا الجدل، لا يوجد معنى لكلمات مثل الحقيقة أو العدالة، لأن قصة الضحايا والقصة المضادة باتتا مجرد وجهتي نظر محزنتين، وإن كنا غير قادرين على الوصول للحقيقة، لكننا بالتأكيد لن نستطيع الاستماع إلى موسيقى مايكل جاكسون العظيمة مجدداً بالطريقة نفسها، إن كنا قادرين على الاستماع إليها مجدداً، أصلاً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024