لأسباب غير وطنية.. باقٍ في لبنان

قاسم مرواني

الثلاثاء 2020/11/10
مرّت على هذه الحادثة عشر سنوات بالضبط. كنت أصطحب أخي من مطار بيروت إلى القرية، هو الآتي من بلاد الاغتراب لزيارتنا، وفي الطريق سألني: "لا أفهم، لماذا تسجن نفسك في 10452 كيلومتر مربع بينما الكرة الأرضية كلها في متناولك؟"

أخي الذي عاش في دول عديدة، موزعة على قارّات ثلاث، لم يشعر بالانتماء إلى مكان واحد، ربما تكون هذه إحدى حسنات الهجرة المبكرة، إذ سافر في أوائل العشرينات من عمره. لكن سؤاله خلق لي العديد من التساؤلات. كنت في ذلك الوقت قد تلقيت العديد من عروض العمل خارج لبنان. وفي كل مرة، كنت دائماً أقارب الموضوع بطريقة عاطفية، أن أترك الأشياء التي أحبها، الأصدقاء، الأهل، الحانات والمقاهي المفضلة، لأهاجر. بعيداً من العاطفة، كان عليّ البحث عن فلسفة لتعريف الوطن والانتماء وأسباب وجيهة لرفض كل عروض الهجرة.

في ذلك الوقت، شكل بيت شعر لمحمود دوريش تعريفاً مثالياً للوطن الذي آمنت به حينها. 
"الوطن أن أعود في المساء آمناً/ أن أشرب قهوة أمي".

كان الأمن والاستقرار النفسي، والمادي بطبيعة الحال، شروطاً أولى للانتماء إلى المكان. حرصت حينها على توفير هذه الشروط. انتقلت في بيروت إلى واحدة من أكثر أماكنها "تمتعاً" بالخدمات: كهرباء ومياه، قريبة من كل الأماكن التي أرتادها فلا أعاني زحمة السير، وتحظى بحماية أمنية لقربها من المراكز الحساسة. 

في ظل الفلسفة الجديدة، عشت مرحلة من السعادة، يغمرني شعور بالانتماء، بعيداً من كل المشاكل التي يعانيها البلد، كنت آخذ الأشياء الجيدة وأتحاشى كل ما قد يؤثر فيّ سلباً. محاطاً بالأصدقاء في بيروت، نزور المسارح، نسهر في حانات حفظنا أصحابها وروادها عن ظهر قلب. وحين أزور القرية، يكون فنجان قهوة أمي على شرفة بيتنا المطلة على الجنوب، تجسيداً واضحاً لفلسفة محمود درويش وتعريفه للوطن.

ما كان قبل الأزمة، ليس كما بعدها، وأول ما انتفى هو شرط الأمان. أصبح التفلت الأمني منتشراً في لبنان كله، لم يستثن حتى أكثر المراكز أمناً. الخدمات باتت سيئة على مختلف الصعد، حتى في قلب العاصمة. انفجر المرفأ. من كان يظن إن منطقة مار مخايل-الجميزة ستعاني ما عانته؟ الوضع الاقتصادي يزداد سوءاً، وحتى لو كان المرء قادراً (حتى الآن) على العمل والاستمرار وشراء ما يحتاج إليه، إلا أن المستقبل غامض وينذر بالشر.

أجواء بيروت لم تعد كما كانت. غمامة من الكآبة تسيطر عليها. المقاهي المفضلة، بدأت تغلق أبوابها، ما بقي منها مفتوحاً بات خالياً من الرواد. الأصدقاء الذين اعتدت قضاء الوقت معهم بدأوا يهاجرون، الواحد تلو الآخر. مَن بقي منهم، تتحاشى رؤيته، إذ لن تتبادل معه سوى حديث النكد، عن السياسة والوضع السيء. هل تهاجر بدورك؟

كان علي البحث عن سبب للبقاء، عن تفسير للمشاعر التي تشدني للبقاء هنا والتي تتغلب اليوم، كما سابقاً، على كل مقاربة عقلانية للهجرة.

يسأل غسان كنفاني: "هل تعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو أن لا يحدث كل ذلك". 
أنا أقف على النقيض تماماً مما يقوله كنفاني، إذ أن الوطن هو أن يحدث كل ذلك بالضبط. الحروب والأزمات الاقتصادية والاضطرابات، لازمت البشر منذ وجودهم وحتى اليوم. لا تجد عصراً واحداً يخلو منها. هي جزء من تاريخنا وطبيعتنا وحياتنا، ساهمت بشكل أو بآخر في تطوير مفاهيم البشر وفلسفتهم وعلومهم.

الحرب العالمية الثانية مثلاً، مع كل ما فيها من مآسٍ وكوارث، ساهمت في تطور علمي كبير، وتأسيس الأمم المتحدة واتفاقيات حقوق الإنسان ونهاية الاستعمار، وفتحت الباب أمام عصر ما بعد الحداثة وشيوع الفلسفة الوجودية التي أعلت من قيمة الإنسان. الانتماء هو أن تكون جزءاً من الأزمات وتحاول أن تلعب دوراً في التأثير في مجراها، وتتعلم دروسك منها، وإلا فستكون عبارة عن هرّ يقضي حياته في البحث عن طعام أفضل.

هو رأي لا يتعلق بالوطنية، بقدر ما يتعلق بفلسفة الإنسان للحياة، والزاوية التي يراها منها. هل يعيش ليستمتع برفاهيتها؟ أم يعيش ليحظى بأكبر قدر ممكن من التجارب؟ وهو رأي يستثني من بات عاجزاً عن تأمين قوت يومه واحتياجاته الأساسية. عندها، يصبح "العيش في الوطن غربةً"، كما يقول علي بن أبي طالب.

يقول الروائي السوداني الطيب صالح: 
"نظرت من خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير؛ أنظر إلى جذعها القوي المعتدل؛ وإلى عروقها الضاربة في الأرض؛ وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة؛ أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، لكنني مثل تلك النخلة؛ مخلوق له أصل؛ له جذور؛ له هدف".

البشر ليسوا أشجاراً، الانتماء إلى المكان حيث يولدون ليس غريزياً، ليس مربوطاً بجذور مرئية وملموسة. الانتماء عند البشر يحتاج إلى وقت، كلما تعمق المرء في تاريخ البلد حيث ولد، كلما شعر أن لهذا التاريخ صلة مباشرة به، وأنه موجود هنا بسبب كل هذه الأحداث التاريخية التي مرت على المكان. كلما عاش أكثر في مكان محدد، كلما تشرب ثقافته وعاداته وتقاليده، فأصبح المكان جزءاً منه. كل ذلك يحتاج إلى وقت وتعمق.

عندما سافر أخي إلى بلاد الاغتراب، كان في سنٍّ مبكرة، لم يتسنّ له الوقت الكافي لبناء انتماء ثابت إلى المكان، على الأرجح لم يكن مغامراً بقدر ما كان روحاً قلقة، يبحث في كل مكان عن شيء ما لا يجده. في سنٍّ متأخرة، يترسخ الانتماء فينا، يصبح خيار الهجرة صعباً. نصبح كنخلة الطيب صالح: مخلوق له أصل، له جذور، له هدف. ونخاف، إن هاجرنا، أن نتحول إلى ريشة في مهب الريح.

إذا سافرت إلى فرنسا مثلاً، لن أصبح مواطناً فرنسياً. لن أهتم لقضايا الشعب الفرنسي. لن أقرأ التاريخ الفرنسي ويغمرني شعور بأن معارك نابليون بونابرت سبب وجودي في هذا المكان. لن تعنيني الثقافة الفرنسية. سأبحث في فرنسا عن لبنانيين آخرين أشاركهم الثقافة والانتماء.

سأكتب، بينما أعيش في فرنسا عن لبنان. سأتابع القضايا اللبنانية. سأكون جسداً هناك وروحاً هنا. سأبحث عن مطعم يعدّ المأكولات اللبنانية. سنجتمع في السهرات المسائية، لبنانيين يتحدثون العربية، يتبادلون أخبار لبنان ويناقشون قضاياه. ليس لبنان الـ10452 كيلومتراً مربعاً، بل لبنان الثقافة التي تشربها كل منا بطريقة مختلفة. لبنان الناس الذين نحبهم وبقوا فيه. سنهاجر، لكن كلاً منا سيحمل لبنانه، معه ولكل منا لبنان مختلف وقرية مختلفة ومقهى مختلف.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024